صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 13:44
المحور:
الادب والفن
مقامة الهايكو و الهايبون : رحلة الأدب الياباني إلى العالم العربي.
في الآونة الأخيرة , بدأت تظهر في الساحة الأدبية العربية كتابات تجمع بين النثر والشعر الرمزي القصير, عند البحث في جذور هذا النوع , نكتشف أنه محاكاة لأدب ياباني عريق: الهايكو والهايبون , وكما هو الحال مع الأبوذية والزهيري في العراق , يمتلك هذان الشكلان الشعريان اليابانيان خصائصهما الفريدة التي تميزهما , الهايكو, بنظمه الموجز, والهايبون , بدمجه للنثر والشعر , ويمثلان رحلة أدبية فريدة تعتمد على الملاحظة العميقة للطبيعة وتفاصيل الحياة اليومية , والهايكو هو قصيدة يابانية قصيرة جدًا , أو هو قصيدة اللحظة الواحدة , وتتكون من ثلاثة أسطر فقط , بنظام مقاطع صوتية محدد (5-7-5) , هذا الهيكل الصارم يجبر الشاعر على أن يكون دقيقًا وموجزًا للغاية في اختيار كلماته , الهدف الأساسي للهايكو هو التقاط لحظة معينة , غالبًا ما تكون مرتبطة بالطبيعة أو بفصل من فصول السنة .
يعتبر ماتسو باشو من أشهر شعراء الهايكو, الذي اشتهر بأسلوبه الذي يجمع بين البساطة والعمق , في الهايكو , لا يصف الشاعر المشاعر بشكل مباشر , بل يترك للقارئ مهمة استنتاجها من خلال الصور التي يقدمها , على سبيل المثال, هايكو معروف لباشو: (( بركة قديمة , ضفدع يقفز فيها , صوت الماء )) , في هذا الهايكو, يتم خلق مشهد كامل : الهدوء السائد للبركة القديمة , ثم كسره فجأة بقفزة الضفدع , مما يولد صدىً للصوت في ذهن القارئ , الهايكو ليس مجرد وصف , بل هو دعوة للتأمل والمشاركة في لحظة شاعرية , أما الهايبون فهو مزيج النثر والشعر , وهو نوع أدبي مختلف وأكثر شمولًا , يجمع بين النثر (النص العادي) والهايكو , في الهايبون , يكتب الشاعر جزءًا نثريًا يسرد فيه قصة أو يصف موقفًا أو رحلة , ثم يتبعه بهايكو يلخص المشاعر أو الأفكار الرئيسية في ذلك الجزء النثري , والهايبون هو فن السرد المصغر , النثر يقدم السياق , بينما الهايكو يضيف لمسة شعرية أو إشارة رمزية , أشهر مثال على الهايبون هو كتاب (( طريق الشمال الضيق)) لماتسو باشو, الذي يوثق فيه رحلاته الطويلة في شمال اليابان , في هذا العمل , يصف باشو المناظر الطبيعية التي يراها , والأشخاص الذين يقابلهم , والأفكار التي تخطر بباله أثناء رحلاته , ثم يختم كل مقطع نثري بهايكو يعمق التجربة , الهايبون يوفر مساحة أكبر للشاعر للتعبير عن نفسه , مع الاحتفاظ بجمالية الهايكو الموجزة , إنه يجمع بين قوة النثر في السرد وعمق الهايكو في التكثيف.
لم يبقَ الشعر الياباني بأسلوبه الفريد وقواعده الصارمة حكرًا على اليابان , بل انطلق في رحلة عبر المحيطات ليصل إلى الغرب , حيث وجد صدى لدى الشعراء والقراء , انتقاله لم يكن مجرد ترجمة , بل كان عملية مثيرة للتكيف , أثرت في الأدب الغربي وأضافت إليه أبعادًا جديدة من التعبير, وقد بدأ الهايكو والهايبون في جذب انتباه الغرب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين , بفضل جهود المستشرقين والرحالة الذين كانوا يترجمون الأدب الياباني , كان الهايكو هو الشكل الأول الذي وصل إلى الغرب , حيث لفتت بساطته وقدرته على تكثيف مشهد كامل في ثلاثة أسطر فقط انتباه الشعراء الغربيين , الذين كانوا يبحثون عن أشكال جديدة ومبتكرة للتعبير, بعيدًا عن القوالب التقليدية , ويعتبر عزرا باوند أشهر من ساهم في هذه المرحلة , وكان له دور كبير في تقديم الهايكو والأشكال الشعرية اليابانية الأخرى إلى الجمهور الأمريكي , في قصيدته الشهيرة (( في محطة المترو (( In a Station of the Metro, استخدم باوند تقنية الهايكو في التقاط لحظة عابرة :(( The apparition of these faces in the crowd Petals on a wet, black bough. )) , ثم حصل التكيّف الغربي مع مرور الوقت , بخلق قواعد جديدة وتجارب حرة , لم يلتزم الشعراء الغربيون دائمًا بالهيكل الصوتي الصارم للهايكو (5-7-5 مقاطع صوتية) , الذي يصعب تطبيقه بدقة في لغات مثل الإنجليزية أو الفرنسية , فبدلًا من ذلك , ركزوا على الجوهر, وهو التقاط لحظة من الطبيعة أو من الحياة اليومية , مع الحفاظ على الإيجاز والصورة القوية.
انتقل الهايبون إلى الغرب في وقت لاحق , بأعتباره فن السرد والتأمل وذلك في منتصف القرن العشرين , لكنه اكتسب شهرة واسعة بين الشعراء الذين وجدوا فيه مساحة للتعبير عن تجاربهم الشخصية ورحلاتهم , وقدم الهايبون للشاعر الغربي أداة قوية لدمج السرد النثري مع الشعر, مما يسمح له بتقديم سياق أوسع لمشاعره أو أفكاره , قبل أن يلخصها في هايكو واحد , هذا المزيج من السرد والتأمل كان مثاليًا لأعمال السيرة الذاتية أو مذكرات السفر , وأصبح الهايبون يستخدم في الغرب في سياقات متنوعة , من وصف رحلة حول العالم إلى تأملات في حديقة خلف المنزل , إنه يمثل طريقة جديدة للنظر إلى العالم : كتابة ملاحظات يومية ورفعها إلى مستوى فني من خلال دمجها مع الشعر, وأصبح الهايكو والهايبون جزءًا من المشهد الأدبي الغربي , وهناك مجلات ومنتديات مخصصة لهما , لم يعدا مجرد أشكال شعرية , بل أصبحا طريقة تفكير , تعلمنا كيف نلاحظ العالم من حولنا بعين أكثر تركيزًا وحساسية , هذا الانتقال من اليابان إلى الغرب لم يكن رحلة في اتجاه واحد , بل كان تبادلًا ثقافيًا غنيًا أثر في الأدب العالمي.
لم يكن الأدب العربي بمنأى عن هذا التأثير , ولم يكن الشعر العربي بتاريخه العريق وأنماطه المتنوعة , بمعزل عن التأثر بالأشكال الشعرية العالمية , في رحلة الأدب العابرة للثقافات , وقد وجد الشعراء العرب في الهايكو والهايبون اليابانيين أفقًا جديدًا للتعبير , يمزج بين الإيجاز والعمق, ويتناغم مع حساسية اللغة العربية وجمالياتها , هذا الانتقال لم يكن مجرد استعارة , بل كان عملية إبداعية أثمرت عن تجارب فريدة , ويعود الاهتمام العربي بالهايكو إلى النصف الثاني من القرن العشرين , مع تزايد حركة الترجمة والاطلاع على الآداب العالمية , لفتت بساطة الهايكو وقدرته على التقاط لحظة عابرة انتباه الشعراء العرب , الذين وجدوا فيه وسيلة للابتعاد عن الإيقاعات التقليدية والبحث عن قصيدة أكثر كثافة , وكان التحدي الأكبر الذي واجهه الشعراء العرب بشكل واضح : صعوبة تطبيق الهيكل الصوتي الياباني في اللغة العربية , هذا يوضح لماذا ركز الشعراء العرب على (( الروح )) بدلًا من (( القالب )) , وهو الإيجاز الشديد بأستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات لإيصال أكبر قدر من المعنى , والصورة المركزة لخلق صورة ذهنية واضحة ومكثفة , غالبًا ما تكون مرتبطة بالطبيعة , ثم اللحظة التأملية والتقاط لحظة زمنية معينة , وتحويلها إلى تجربة شعرية عميقة.
الهايكو والهايبون, تكامل وتناغم , فعلى الرغم من الاختلافات , فإن الهايكو والهايبون يتكاملان بشكل جميل , الهايكو هو لحظة مكثفة , بينما الهايبون هو سلسلة من هذه اللحظات , مرتبطة معًا بقوة السرد النثري , كلاهما يعلمنا قيمة الملاحظة الدقيقة والقدرة على رؤية الجمال في أبسط الأشياء , إنهما ليسا مجرد أشكال شعرية , بل هما وسيلة للتواصل مع العالم , وفهم العلاقة بين الإنسان والطبيعة , وتقدير اللحظات العابرة التي تشكل حياتنا.
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟