صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8420 - 2025 / 7 / 31 - 11:33
المحور:
الادب والفن
قول ابن أبي أويس : قال مالك : أقبل علي ذات يوم ربيعة فقال لي : من هم السفلة يا مالك؟ قلت : الذي يأكل بدينه , قال لي: فمن سفلة السفلة ؟ قلت الذي يأكل غيره بدينه (ترتيب المدارك وتقريب المسالك1/147) , وهذا ما شهدناه في أفعال رجال الدين البذيئة في عراق ما بعد عام 2003 , فهم ابعد الناس عن الدين , بل لقد ابتدعوا دينا جديدا لا علاقة له بالإسلام , وادغموه عنوة بالإسلام , ليشوهوا معالمه الرحبة.
مذ أن كنا صغارا , إحتفظنا بصورة نمطية عن الحرامي , شخص يضع قناعا أسودا على العينين , بملابس مخططة , وأعتقد أن هذه الصورة مستوردة هي الأخرى عن الثقافة الأوربية , وكلمة حرامي مشتقَة من (الحرام) بجدارة , وفي تراثنا الغابر حكاية عن ذلك الحرامي الذي إقتحم منزلا في أحد بغداد الفقيرة , فلم يجد ما يستحق السرقة لفقر حال أصحاب المنزل , سوى (محراث التنور) , ومحراث التنور هو سيخ حديدي مجعّد , تستخدمه ربة المنزل أيام زمان لتحريك قاع التنور لتكشف عن وجه الجمر تحت الرماد , ولكم أن تتصوروا حال هذا (المحراث) , وهو مكللا بالسخام والرماد , رفض ذلك الحرامي أن يخرج خالي اليدين , فدفعه خبثة أن يسرق محراث التنور , وما أن خرج من المنزل , حتى رمى به في قارعة الطريق .
لكن حتى حرامية أيام زمان , يمتلكون شيء من النخوة على عكس حرامية هذا الزمان , فهناك قصة عن ذلك الحرامي الذي إقتحم منزلا فيه إمرأة مع إبنها الغلام , وهما نائمان , والمرأة تراقب ذلك اللص من تحت الغطاء وهو يجمع أغراض المنزل في عباءة هذه المرأة , حاول رفع العباءة بمحتوياتها , لكن الحمل كان ثقيلا , فما كان من المرأة إلا أن أيقظت صغيرها لمساعدة هذا اللص على حمل مسروقاته قائلة له (گوم شيّل خالك) أي قم وساعد خالك , فما كان من الحرامي إلا أن يرمي العباءة أرضا وغادر وهو خجلا , فرغم كونه ممتهن للحرام , إلا أنه لم ينسهِ نخوته , وأنا لا أحاول أن التمس عذرا لحرامية أيام زمان , ربما تقطعت به السبل عن لقمة يلوكها , أو أنه أضطر لذلك بسبب حاجة ما , وأنا متأكد أن هؤلاء (الحرامية) , ما سلكوا هذا الطريق لو وجدوا ما يسدّ رمقهم بالحلال .
في عالم الجريمة المظلم , حيث تتعدد أشكال الاستغلال والتعدي على حقوق الآخرين , يبرز صنف من اللصوص يتميز ببشاعة أفعاله وانعدام أدنى درجات الإنسانية والضمير , إنهم (( سفلة السفلة )) من اللصوص , الذين يستغلون ضعف الضحايا وظروفهم القاهرة لتحقيق مكاسب دنيئة , تاركين خلفهم آثارًا مدمرة تتجاوز الخسائر المادية لتشمل الجروح النفسية العميقة , هؤلاء ليسوا مجرد سارقين يبحثون عن المال أو الممتلكات الثمينة , إنهم يتعدون على كرامة الإنسان وحرمة حياته , مستغلين ثقته أو حاجته أو حتى مرضه , تراهم يتربصون بالفقراء والمحتاجين , ينتزعون منهم قوت يومهم القليل أو مدخراتهم الضئيلة التي يعتمدون عليها في مواجهة صعوبات الحياة , لا يترددون في استغلال كبار السن وعجزهم , أو المرضى وضعفهم , أو حتى الأطفال وبراءتهم .
حرامية هذا الزمن , أثروا ثراءً فاحشا بحيث سيعيش أحفاد أحفادهم عيشة باذخة , لأنهم سرقوا بلدا بأكمله إلى درجة إفقاره , ولو لم توجد حرامية من هذه الشاكلة , كنا أغنى من أغنى دولة في العالم , نعم فحراميتنا لا يرتدون قناعا ولا بدلة مخططة مخصصة للسجون , بل يرتدون بدلات وربطات عنق , وإن كانت هذه البدلات هي التي ترتديهم , حرامية معروفون لدينا جميعا , وهم يعرفون أيضا , يستقلّون ارقى السيارات من طراز (جي كلاس) وغيرها , حرامية تتراكض أمامهم الحمايات والإمّعات الخَدَم , يقطعون الشوارع بوجه الشرفاء , على عكس حرامي ايام زمان الذي يستغل ظلام الليل , مرتعبا من صفّارة (الچرخچي) , مغطيا وجهه باللثام , وحرامي هذا الزمان مسفر الوجه , يسرقنا تحت ضوء الشمس !.
لقد تحوّل الدين في عراق اليوم , للأسف , إلى سلعة تُباع وتُشترى في سوق المصالح الرخيصة , فبعد عام 2003 , ووسط الفوضى التي عمّت البلاد , ظهرت فئة من (( رجال الدين )) الذين استغلوا جهل الناس وحاجتهم , فلبسوا عباءة الدين زورًا وبهتانًا , ليُحققوا مكاسب شخصية وسلطوية على حساب القيم والمبادئ الإسلامية السمحة , هؤلاء ليسوا سوى سفلة السفلة بحق , فهم لم يأكلوا بدينهم فحسب , بل أكلوا غيرهم بدينهم , وجعلوه أداة للسيطرة والقمع والفساد , فلقد شهدنا كيف تحوّلت المنابر الدينية إلى منصات للتحريض على الكراهية والانقسام , بدلًا من أن تكون منابر للدعوة إلى الوحدة والتآخي , رأينا فتاوى غريبة وشاذة تُصدر لتبرير أفعال لا تمت للإسلام بصلة , وتُشرعن الظلم والفساد , لقد أصبحت الشعائر الدينية مجرد قشور تُمارس بلا روح , بينما تضيع القيم الجوهرية كالتسامح والعدل والرحمة .
لم يكتفِ هؤلاء بتشويه صورة الإسلام السمحة , بل عملوا على إقحام الدين في كل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية بطريقة تخدم مصالحهم الضيقة , فبات الدين ستارًا يُخفي وراءه صراعات على النفوذ والمناصب , ووسيلة لتبرير الفشل في إدارة شؤون البلاد , إنهم يتحدثون باسم الله وهم أبعد ما يكونون عن منهجه القويم , فهم يتلون آيات الكتاب ويخالفونها في أفعالهم , وهذا الدين الجديد الذي ابتدعوه , لا يهدف إلى إعمار الأرض ونشر الخير, بل إلى تدمير النسيج الاجتماعي, وزرع بذور الفرقة بين أبناء الوطن الواحد, لقد أضحى الدين لديهم مجرد وسيلة لتقسيم المجتمع إلى طوائف ومذاهب متناحرة , بينما يتنعمون هم بالسلطة والثراء على حساب آلام الناس ومعاناتهم .
إن فعل السرقة في حد ذاته فعل مشين , ولكنه يصل إلى قمة الانحطاط عندما يستغل الجاني حالة ضعف أو حاجة لدى الضحية , فاللص الذي يقتحم منزلًا خاليًا يختلف تمامًا عن ذلك الذي يسرق أرملة فقدت زوجها حديثًا , أو يتلاعب بمريض يعاني آلامًا مبرحة , في الحالة الأولى , يكون الدافع هو الجشع والرغبة في الثراء غير المشروع , أما في الحالة الثانية , فيضاف إلى ذلك استغلال بشع للضعف الإنساني وانعدام تام للرحمة , إن (( سفلة السفلة )) من اللصوص لا يكتفون بالسرقة المادية , بل قد يمارسون أشكالًا أخرى من الاستغلال البغيض , قد يستغلون سلطتهم أو نفوذهم لابتزاز الآخرين وسلبهم حقوقهم , أو قد يتلاعبون بمشاعر الناس وحاجاتهم العاطفية لتحقيق أغراضهم الدنيئة , إنهم يتفننون في إلحاق الأذى بالآخرين , ولا يرعون حرمة أو قيمة لأي شيء سوى مصالحهم الذاتية الخسيسة , وإن هذه الفئة من المجرمين تمثل وصمة عار على جبين الإنسانية , إنهم يجسدون أسوأ ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من انحدار أخلاقي وقسوة قلب , إنهم لا يستحقون أي قدر من التعاطف أو التسامح , بل يستحقون أقصى درجات العقاب الرادع لجرائمهم البشعة .
إن ما يجري في العراق اليوم من فساد مستشرٍ, وضعف في الخدمات , وتدهور في الأوضاع المعيشية , ليس ببعيد عن ممارسات هذه الفئة , فمن يأكل بدينه , ويزداد سوءًا عندما يأكل غيره بدينه , لا يمكن أن يكون قدوة حسنة أو أن يساهم في بناء أمة , لقد حان الوقت ليكتشف الناس حقيقة هؤلاء , وينزعوا عنهم قناع الدين الذي استغلوه لتشويه الإسلام النقي وتحقيق مآربهم الدنيئة , في نهاية المطاف , يجب أن نتذكر دائمًا أن المجتمع السليم يقوم على قيم العدل والرحمة والتكافل , ومواجهة هذه الفئة المنحرفة من اللصوص تتطلب تضافر جهود الجميع , من الأفراد والمؤسسات , لتعزيز هذه القيم وحماية الضعفاء والمحتاجين من براثن هؤلاء الانتهازيين عديمي الضمير, إن محاربة الجريمة بكل أشكالها , وخاصة تلك التي تستغل ضعف الإنسان وحاجته , هي مسؤولية أخلاقية وإنسانية تقع على عاتقنا جميعًا.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟