صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 11:17
المحور:
الادب والفن
مقامة الفرج بعد الشدة :
إلى كل عراقي صامد , يا من تلوكتك الأيام وضاقت بك السبل , لا يأس في انتظار الفرج , فكما أن الليل مهما طال لا بد أن يعقبه فجر صادق , فإن ظلم الغزاة وذيولهم إلى انقضاء قريب , والنصر قادم بإذن الله .
الفرج بعد الشدة هو كتاب ألفه القاضي التنوخي وأورد فيه الكثير من الأخبار والقصص وبناه على 14 باباً , وكتاب التنوخي ليس الكتاب الوحيد الذي يحمل هذا الاسم كما أشار مؤلفه في المقدمة حيث ذكر أن أول من سمى كتاباً بهذا العنوان هو أبو الحسن المدائني , ثم ابن أبي الدنيا , ثم القاضي أبو حسين , وقال : (( ووجدتُ أبا بكر ابن أبي الدنيا , والقاضي أبا الحسين , لم يذكرا أن للمدائني كتاباً في هذا المعنى , فإن لم يكونا عرفا هذا , فهو طريف , وإن كانا تعمدا ترك ذكره تنفيقاً لكتابيهما وتغطية على كتاب الرجل , فهو أطرف )) , وفي الحديث عن الترمذي: أفضل العبادة انتظار الفرج) وكما قال سبحانه: ( أليس الصبح بقريب , إذا تضايق أمر فانتظر فرجاً فأقرب الأمر أدناه إلى الفرج .
يقول هُدبةُ بنُ خِشرمِ العُذريّ , وهوَ شَاعرٌ إسْلَامِي فَصِيحٌ : (( عَسَى الكَربُ الذِي أَمْسَيْتَ فيهِ يكونُ ورَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ )) , وَهُدبةُ شَاعِرٌ مفلَّقٌ , وكَانَ كَثيرَ الأمْثَالِ فِي شعرِه , وأكثرُ شِعرِه فِي السّجنِ والمَوتِ , لأنَّه سُجِنَ , وقُتلَ شابّاً سَنةَ 54 هـ , وهوَ أوّلُ من أُقِيدَ فِي الإسلامِ , فَحُبِسَ في عَهدِ مُعاويةَ خَمسَ سِنينَ , لقتلِه ابنَ عَمِّه زيادةَ بنِ زيدٍ العُذريّ , وَكَانَا مُقَربَيْن لِبَعضِهمَا بَعْضاً , وصَدَفَ أنَّهمَا كَانَا عَائديْنِ مِنَ الشَّامِ معَ قَافلةٍ فِيهَا أُختُ هُدبةَ , وكَانَ أنْ قَالَ هُدبةُ شِعراً شَبَّبَ فيهِ بأختِ زِيادةَ وبَالغَ , فَلَمَّا وَصَلَا المَدِينَةَ جَمَعَ زِيادةُ رفاقَهُ وَضَرَبَا هُدبَةَ ضَرْباً مُبَرّحاً , فَأَصَرَّ علَى الانْتِقَامِ , فَقتَلَ زِيادةَ , وَسُجنَ بِهِ , ثُمَّ لمَّا بَلغَ المِسْوَرُ بنُ زِيادةَ وَكَانَ صغيراً يومَ قَتْلِ أبِيهِ قَتَلَ هُدبَةَ بِأبِيهِ , وَبَيتُ القَصِيدِ مِنْ أبْيَاتٍ كَانَ هُدبةُ يَقولُهَا فِي حَبسِهِ , يُسلّي بِهَا نفسَه , ويَتصبَّرُ بِهَا علَى حَالِهِ , وَيتَمنَّى , فَليسَ للأمَانِيّ مَا يَمنَعُ إعلانَها , وإنْ تَعسَّرَ تَحَقُّقُهَا , يَقولُ : لَعلَّ (الكَربَ) : أشدُّ منَ الهَمّ وَالغَمّ , وهوَ حزنُ النَّفسِ , الذِي (أمسيتَ) : أيْ صَارَ الوقتُ عَليكَ مَسَاءً , وبتَّ فيهِ , يكونُ (وراءَه) : أيْ خلفَه وأمامَه , ويعقبُهُ (فَرَجٌ) : وهوَ كَشفُ الغمّ , يزيلُه عاجلاً , والشَّاعرُ يخاطبُ في الأبيَاتِ ابنَ عمٍ لهُ , كانَ مسجوناً مَعه , وَلِهُدبةَ قصةٌ معَ زوجتِهِ وهوَ يُقادُ للقِصَاصِ , إذْ كَانتْ تَتبعُهُ بِلَهفةٍ , فأنشدَهَا : (( فلَا تَنكَحِي إِنْ فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا أَغَمَّ القَفَا والوَجْهِ لَيْسَ بِأَنْزَعَا )) , فَنهَاهَا في البَيتِ عنْ أنْ تتزوَّجَ منْ بعدِه من يَتَّصفُ بتلكَ الصّفَاتِ , فأوقفَتْ زوجتُه منْ يَقتادُ هُدبةَ , وعَمدَتْ إلى جَزَّارٍ فاستلَّتْ مِنهُ سِكينًا وَبَترتْ أنفَهَا , ثمَّ أقبلتْ علَى زوجِهَا , وَقالتْ لهُ : أهَذَا وَجهُ مَنْ تَرجُو بعدَكَ الزَّواجَ؟ , فَقالَ: الآنَ طَابَ وُرودُ المَوتِ .
في (الفرج بعد الشدة) , لابن أبي الدنيا قوله : حَاصَرَ هَارُونُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حِصْنًا , فَإِذَا سَهْمٌ قَدْ جَاءَ لَيْسَ لَهُ نَصْلٌ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ , مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: (( إِذَا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْتُ أَهْلِي وَصَارَ الْقَارُ كَاللَّبَنِ الْحَلِيبِ )) ,فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ : اكْتُبُوا عَلَيْهِ وَرُدُّوهُ : (( عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ )) , قَالَ : فَافْتُتِحَ الْحِصْنُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ , أَوْ ثَلَاثَةٍ , فَكَانَ الرَّجُلُ صَاحِبُ السَّهْمِ مِمَّنْ تَخَلَّصَ , وَكَانَ مَأْسُوراً مَحْبُوساً فِيهِ سَنَتَيْنِ , والقصص التي تُروى في الفرج بعدَ الشّدة كثيرةٌ في كتبِ التراث.
عن أبي قلابة المحدث , قال: ضقت ضيقة شديدة , فأصبحت ذات يوم , والمطر يجيء كأفواه القرب , والصبيان يتضوَّرون جوعاً , وما معي حبة واحدة فما فوقها , فبقيت متحيَّراً في أمري , فخرجت , وجلست في دهليزي , وفتحت بابي , وجعلت أفكر في أمري , ونفسي تكاد تخرج غماً لما ألاقيه , وليس يسلك الطريق أحد من شدة المطر, فإذا بامرأة نبيلة , على حمار فاره , وخادم أسود آخذ بلجام الحمار, يخوض في الوحل , فلما صار بإزاء داري , سلم , وقال : أين منزل أبي قلابة ؟ فقلت له: هذا منزله , وأنا هو , فسألتني عن مسألة , فأفتيتها فيها , فصادف ذلك ما أحبّت , فأخرجت من خفّها خريطة, فدفعت إليّ منها ثلاثين ديناراً , ثم قالت : يا أبا قلابة , سبحان خالقك , فقد تنوق في قبح وجهك , وانصرفت.
أضجع أحد الجزارين كبشا ليذبحه بالقيروان , فتخبط بين يديه وأفلت منه وذهب , فقام الجزار يطلبه وجعل يمشي إلى أن دخل إلى خربة , فإذا فيها رجل مذبوح يتشحط في دمه ففزع وخرج هاربا , وإذا صاحب الشرطة والرجالة عندهم خبر القتيل , وجعلوا يطلبون خبر القاتل والمقتول , فأصابوا الجزار وبيده السكين وهو ملوَّث بالدم والرجل مقتول في الخربة , فقبضوه وحملوه إلى السلطان فقال له السلطان: أنت قتلت الرجل؟ قال: نعم , فما زالوا يستنطقونه وهو يعترف اعترافا لا إشكال فيه , فأمر به السلطان ليُقتل فأُخرج للقتل , واجتمعت الأمم ليبصروا قتله , فلما هموا بقتله اندفع رجل من حلقة المجتمعين وقال: يا قوم لا تقتلوه فأنا قاتل القتيل , فقُبض وحُمل إلى السلطان فاعترف وقال: أنا قتلته , فقال السلطان قد كنت معافى من هذا فما حملك على الاعتراف؟ فقال: رأيت هذا الرجل يُقتل ظلما فكرهت أن ألقى الله بدم رجلين , فأمر به السلطان فقُتل ثم قال للرجل الأول: يا أيها الرجل ما دعاك إلى الاعتراف بالقتل وأنت بريء؟ فقال الرجل : فما حيلتي رجل مقتول في الخربة وأخذوني وأنا خارج من الخربة وبيدي سكين ملطخة بالدم , فإن أنكرت فمن يقبلني وإن اعتذرت فمن يعذرني؟ فخلَّى سبيله وانصرف مكرَّما.
قال بعض العلماء: رأيت امرأة بالبادية , وقد جاء البَرَدُ فذهب بزرعها , فجاء الناس يعزّونها فرفعت رأسها إلى السماء , وقالت: اللهم أنت المأمول لأَحسنِ الخلف وبيدك التعويض مما تلف , فافعل بنا ما أنت أهله , فإنّ أرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك , قال: فلم أبرح حتى مرّ رجل من الأَجِلاء , فحدّث بما كان , فوهب لها خمسمائة دينار , فأجاب الله دعوتها وفرَّج في الحين كربتها.
لما أُدخل إبراهيم التميمي سجنَ الحجاج رأى قوما مقرّنين في سلاسل , إذا قاموا قاموا معا , وإذا قعدوا قعدوا معا , فقال : يا أهل بلاء الله في نعمته , ويا أهل نعمة الله في بلائه , إن الله عز وجل قد رآكم أهلا ليبتليكم , فأروه أهلا للصبر, فقالوا : من أنت رحمك الله؟ قال: أنا ممن يتوقع من البلاء مثلما أنتم عليه , فقال أهل السجن: ما نحب أنَّا خرجنا , وقال الفضيل بن عياض رحمه الله وهو يحدث عن (إبراهيم التميمي) إن إبراهيم قال : إن حبسني (يعني الحجاج) فهو أهون علي , ولكن أخاف أن يبتليني فلا أدري على ما أكون عليه ؟ (يعني من الفتنة) , فحبسني , فدخلت على اثنين في قيد واحد , في مكان ضيق لا يجد الرجل إلا موضع مجلسه , فيه يأكلون , وفيه يتغوطون , وفيه يصلّون , قال : فجيء برجل من أهل البحرين , فأدخل علينا , فلم يجد مكانا , فجعلوا يتبرمون منه , فقال : اصبروا , فإنما هي الليلة , فلما كان الليل قام يصلي , فقال : يا رب مننت علي بدينك , وعلمتني كتابك , ثم سلطت علي شر خلقك , يا رب الليلة الليلة , لا أصبح فيه , فما أصبحنا حتى ضَرب بوّابُ السجن : أين البحراني ؟ فقلنا : ما دعا به الساعة إلا ليقتل , فخُلَّيَ سبيلُه , فجاء فقام على الباب , فسلم علينا , وقال: أطيعوا الله لا يعصكم .
يا أيّها الإنسان إن مع العسر يسرا , بعد الجوع شبع , وبعد الظمإ ريّ , وبعد السهر نوم , وبعد المرض عافية , سوف يصل الغائب , ويهتدي الضالّ , ويفكّ العاني , وينقشع الظلام ,فعسى الله أن يأتي بالفتح أو بأمر من عنده , بشّر الليل بصبح صادق سوف يطارده على رؤوس الجبال ومسارب الأودية , بشّر المهموم بفرج مفاجئ يصل في سرعة الضوء ولمح البصر, بشّر المنكوب بلطف خفيّ وكفّ حانية وادعة , وإذا رأيت الصحراء تمتد وتمتد , فاعلم أن وراءها رياضاً خضراء وارفة الظلال , وإذا رأيت الحبل يشتد ويشتد , فاعلم أنه سوف ينقطع , مع الدمعة بسمة , ومع الخوف أمن , ومع الفزع سكينة , فلا تضق ذرعاً , فمن المحال دوام الحال , وأفضل العبادة انتظار الفرج , والأيام دول , والدهر قُلّب , والليالي حبالى , والغيب مستور , والحكيم كل يوم هو في شأن , ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا , وإن مع العسر يسراً , إن مع العسر يسراً.
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟