أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة معطف ديدرو .














المزيد.....

مقامة معطف ديدرو .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8408 - 2025 / 7 / 19 - 15:00
المحور: الادب والفن
    


مقامة معطف ديدرو :

يعود هذا المصطلح إلى مقال قصير كتبه الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو عام 1769, بعنوان (( الندم على التخلص من ردائي القديم )) , ويروي فيه أن حصوله على هدية عبارة عن رداء فاخر غَيَّرَ نظرته إلى جميع ما يملك من أثاث ومقتنيات , فبينما كان راضياً بما لديه من بساطة وراحة قبل الهدية , بدا الرداء الجديد غريباً وسط ما يملكه من مقتنيات متواضعة , وهو ما أشعره بضرورة شراء مقتنيات تتناسب مع هذا الرداء الفاخر , وسرعان ما وجد نفسه في دوامة من ابتياع مقتنيات ليس في حاجة فعلية لها , ولكنها تتناسب مع ردائه الجديد , وانتهى به الأمر بإنفاق أمواله على ما لا حاجة له به , ساعياً إلى الكمال بين مقتنياته الجديدة الفاخرة , ويُعد (( معطف ديدرو)) تجربة فكرية طرحها هذا الفيلسوف , لتسليط الضوء على الآثار النفسية والاقتصادية للاستهلاك, لم يكن ديدرو يقصد معطفًا حقيقيًا بحد ذاته , بل كان يتحدث عن كيف أن امتلاك سلعة فاخرة واحدة يمكن أن يدفع الفرد إلى سلسلة لا نهائية من المشتريات الأخرى للحفاظ على مستوى معين من التناغم والتناسق .

تتجسد فكرة معطف ديدرو بشكل جلي في حياتنا الاستهلاكية المعاصرة , من خلال دورة الشراء اللانهائية , فبمجرد شراء سلعة جديدة ومكلفة , مثل هاتف ذكي حديث أو سيارة فارهة , قد نشعر بالحاجة إلى تحديث كل ما يحيط بنا ليتناسب مع هذا الاقتناء الجديد , على سبيل المثال , قد يدفعنا شراء هاتف جديد إلى شراء سماعات رأس لاسلكية متطورة , أو حتى تغيير أثاث المنزل ليتناسب مع (( نمط الحياة )) الذي يوحي به الاقتناء الجديد , ويبدو واضحا ضغط المجتمع والإعلان , حيث تلعب الشركات دورًا كبيرًا في تغذية هذه الظاهرة , فالحملات الإعلانية لا تبيع المنتجات فحسب , بل تبيع أنماط حياة كاملة , مما يدفع المستهلكين إلى السعي وراء التناسق والكمال الظاهري , ويؤثر ضغط الأقران ووسائل التواصل الاجتماعي أيضًا في تعزيز هذا السلوك , حيث نشعر بالحاجة إلى مواكبة الآخرين وامتلاك أحدث ما هو متاح , ويمكن أن يؤدي السعي وراء (( التناغم الديدروي)) إلى الاستهلاك المفرط وتراكم الديون , فبدلًا من الاكتفاء بما هو ضروري , نجد أنفسنا نلاحق الكماليات ونغرق في دوامة من المشتريات التي قد لا نحتاجها حقًا.

ظهر تأثير معطف ديدرو على حكومات ما بعد الغزو, عندما سعت الحكومات الجديدة عديمة التجربة والثقافة إلى إظهار الاستقرار والرخاء بشكل سريع ومباشر, تجلى في مشاريع بناء ضخمة , أو شراء معدات عسكرية حديثة , أو حتى توفير خدمات معينة قد تبدو (( فاخرة )) في سياق ما بعد الحرب , وهي مشاريع وإن كانت تبدو للوهلة الأولى علامة على التقدم , فأنها خلقت (( تأثير ديدرو)) على المستوى الوطني , فبدلاً من التركيز على الاحتياجات الأساسية للمواطنين وإعادة بناء البنية التحتية بشكل مستدام , أنجرفت تلك الحكومات في شراء سلع وخدمات غير ضرورية أو بأسعار مبالغ فيها , وذلك للحفاظ على صورة معينة من الرخاء والتقدم الموهوم , وهو ما يمكن تشبيهه بشراء (( المعاطف الفاخرة )) التي لا تتناسب مع الواقع الاقتصادي , كما أن الفساد وسوء الإدارة , أدى الى فشل المشاريع الكبيرة التي تهدف إلى إظهار الاستقرار , وأدى التركيز على إظهار (( الوجه الجديد )) للحكومة إلى إهمال الأولويات الأساسية مثل توفير الأمن , التعليم , الرعاية الصحية , وإعادة بناء المؤسسات المدنية , تمامًا كما قد ينشغل الفرد بتجديد خزانة ملابسه بعد شراء معطف جديد ويهمل إصلاح الأضرار الأساسية في منزله.

على الرغم من أن ديدرو صاغ المفهوم بشكل فلسفي , إلا أن الفكرة الأساسية وراءه : وهي أن اقتناء سلعة أو مكانة أو مظهر معين يمكن أن يولد سلسلة من الاحتياجات والرغبات اللاحقة للحفاظ على التناسق والظهور , هي فكرة متجذرة في الطبيعة البشرية , إنها تعكس الميل البشري إلى الكمال , والتفاخر , والحفاظ على الصورة التي نرغب في تقديمها للعالم , حتى لو كلفنا ذلك فوق طاقتنا , ان هذه الديناميكيات النفسية ليست سلبية بطبيعتها , الا انها تصبح خطرة حين يُستدرج الإنسان إلى الإنفاق بدافع التناسق والسعي إلى الكمال لا بدافع الحاجة , ويدخل حينها في حلقة مفرغة لا تنتهي من الشراء والشعور بالنقص ومن ثم الشراء مرة أخرى , وأن طرْح هذا الموضوع قد يقي المستهلك الوقوع ضحية الأساليب النفسية للشركات , حتى لا يندم لاحقاً على ردائه الجديد , كما فعل ديدرو.

باختصار, يقدم لنا (( معطف ديدرو)) رؤية عميقة ليس فقط حول سلوكنا الاستهلاكي الفردي , بل أيضًا حول التحديات التي تواجه الحكومات , خاصة في الفترات الانتقالية , إنه تذكير بأن المظاهر قد تكون خادعة , وأن التركيز على الجوهر والأولويات الحقيقية هو السبيل لتحقيق الاستقرار والرخاء المستدام , سواء على المستوى الشخصي أو الوطني.

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة حين يرتبك المعنى .
- مقامة جدل اللغة .
- مقامة الشخة .
- مقامة الشطح .
- مقامة الخرق .
- مقامة طِشّاري .
- مقامة الباينباغ .
- مقامة مربع المجون .
- مقامة النوم .
- مقامة السكارى .
- مقامة الكتابة .
- مقامة الأنهيار .
- مقامة صدأ الروح .
- مقامة الرحاب .
- مقامة الدهاليز .
- مقامة الخواطر .
- مقامة طباخات الرطب .
- مقامة الزمن الجميل .
- مقامة العيون عيون .
- مقامة الفرهود .


المزيد.....




- إسرائيل تحتفي بـ-إنجازات- الدفاع الجوي في وجه إيران.. وتقاري ...
- رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصا ...
- المقاطعة، من ردّة الفعل إلى ثقافة التعوّد، سلاحنا الشعبي في ...
- لوحة فنية قابلة للأكل...زائر يتناول -الموزة المليونية- للفنا ...
- إيشيتا تشاكرابورتي: من قيود الطفولة في الهند إلى الريادة الف ...
- فرقة موسيقية بريطانية تؤسس شبكة تضامن للفنانين الداعمين لغزة ...
- رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصا ...
- -ميتا- تعتذر عن ترجمة آلية خاطئة أعلنت وفاة مسؤول هندي
- في قرار مفاجئ.. وزارة الزراعة الأمريكية تفصل 70 باحثًا أجنبي ...
- -بعد 28 عاما-.. عودة سينمائية مختلفة إلى عالم الزومبي


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة معطف ديدرو .