صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8402 - 2025 / 7 / 13 - 09:52
المحور:
الادب والفن
مقامة طِشّاري :
طِشّاري (بكسر الطاء وتشديد الشين) : هي مفردة تستخدم في العراق لتسمية ووصف طلقة الصيد التي تتوزع في عدة اتجاهات , وإذا وصفت جماعة نفسها بهذه الكلمة فهذا يعني بأنها (( مُبعثرة )) , ويرمز بها العراقيون للتشتت والضياع , وقد حاولت الروائية (( إنعام كجه جي )) من خلال رواية (( طِشّاري )) , أن تتناول كارثة الشتات العراقي , في العقود الأخيرة , من خلال سيرة طبيبة عملت في أرياف جنوب العراق في خمسينيات القرن العشرين وأبنائها الثلاثة الموزعين في ثلاث قارات , لاسيما ابنتها البكر التي أصبحت طبيبة أيضًا , وتعمل في المناطق النائية من كندا , وبمواجهة تمزق شمل العائلة يبتكر الحفيد إسكندر مقبرة إلكترونية , جعل لها موقعًا خاصًا على شبكة الإنترنت , دفن فيها الموتى من العائلة حيث يتعذر جمعهم في مقبرة على الأرض , وخصص لكل فرد من أفراد السلالة المتفرقة في قارات العالم قبرًا خاصًا به.
تلقي إنعام كجه جي الضوء على قضية الطائفية في العراق , من خلال حكاية (( وردية )) , وصولًا للحرب والتناثر أو التشتت في بلدان الله , من هنا عنوان الرواية , طشاري , لم يعرف رأسُ ورديَّة العباءةَ سوى مرّة واحدة , يوم ذهبَت مع كمالة وخطيبها إلى النجف لشراء سجّادة عجميّة , عباءة من قماش ثقيل أملس ينزلقُ وينزل على كتفيها ويسحل فتتعثّر به , ترتبكُ ولا تعرف كيف تواصل سيرها في السوق , لقد رأت والدتها ترتدي العباءة السوداء عندما كانوا في الموصل , وكذلك كمالة وجولي , أما هي فكانت طفلة , ولما انتقلت العائلة إلى بغداد ذهبَت الى المدرسة الابتدائية بضفيرتين سافرتين , مثل رفيقاتها , خابر سُليمان صديقه آمر موقع الديوانية وأخبره بأن شقيقته قد تعيّنت طبيبة عندهم , سأله : هل عليها أن ترتدي العباءة؟ لو كانت لي ابنة تخرَّجت دكتورة فلن أُغطّيَها بالعباءة.
كمطر هادئ ينزّ على أرض عطشى , تهطل ذكريات الدكتورة (( وردية )) على صفحات الرواية , ذكريات تسحبها المؤلفة من ذاكرة بطلتها وتباريح روحها , لتنقشها بأحرف من وجع وشجن في سردها , وتمزجها بالكثير من (( ذهب )) التراث العراقي : الأمثال الشعبية , الأغاني , الأسماء , والمفردات العامية , فالدكتورة (( وردية )) طبيبة عراقية , مسقط رأسها بغداد , وهي مسقط قلبها أيضاً , لكن الحرب وتغيُّر ظروف البلاد تجبرها على الرحيل إلى باريس , بعد أن توزعت عائلتها في كل أقاصي الأرض , (( كأن جزاراً تناول ساطوره وحكم على أشلائها أن تتفرق في كل تلك الأماكن , رمى الكبد إلى الشمال الأميركي وطوّح بالرئتين صوب الكاريبي وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج , أما القلب , فقد أخذ الجزار سكينه الرفيعة الحادة وحزّ بها القلب رافعاً إياه , باحتراس , من متكئه بين دجلة والفرات ودحرجه تحت برج إيفل )) , في باريس , تستقبلها إبنة أخيها, لتصبح العجوز الثمانينية صديقة ابنها (( إسكندر)) ,تحكي له عن العراق , وعن أمنيتها في أن تعود لتدفن في ترابه بعد موتها , يقوم الفتى بإنشاء مقبرة إلكترونية على (( كومبيوتره )) يجمع فيها شتات الأقارب المتوزعين في كل أنحاء العالم , يضع قبوراً للأحياء إلى جوار قبور الأموات , محققاً بذلك حلماً يصعب تحقيقه على أرض الواقع : (( وضعت السماعتين فسمعت موسيقى ناعمة تتناغم مع حركة فأرة الكومبيوتر التي يقبض عليها إسكندر , عرض عليها قبوراً تفنن في تشييدها ,وأقام عليها شواهد ملونة مثل أقواس قزح .
تتناول الكاتبة في روايتها تاريخ العراق , منذ الخمسينيات حتى اليوم , بكل مآسيه وأحداثه ومنعطفاته , من خلال ذكريات (( وردية )) الفتاة المسيحية , التي درست الطب في بغداد ثم انتقلت لتعمل في (( الديوانية )) وأحبت الناس هناك وأحبوها , حين لم تكن المذاهب ولا الطوائف لتفرّق بين الناس آنذاك , تتزوج من طبيب يعمل معها في المشفى وتنجب أطفالها , الذين يكبرون ويرحل كلّ منهم إلى وجهة مختلفة , (( ياسمين )) تشحن كطرد بريدي إلى دبي لتتزوج بشخص بالكاد تعرفه , لأنها هددت بالخطف من قبل جماعة تكفيرية , و(( برّاق )) يعيش متنقلاً من بلد إلى بلد بحسب عقد العمل الذي يحصل عليه , أما (( هندة )) التي تحتل قصتها جزءاً كبيراً من السرد , فرحلت مع زوجها بعد ويلات حرب 1991, وعانوا الأمرّين للظفر بتأشيرة للسفر إلى كندا , وبعد وصولهم إلى هناك , بدأت مصاعب من نوع آخر, إذ توجب عليها معادلة شهادتها كي تحصل على عمل , لن تجده إلا في منطقة نائية وبعيدة عن أسرتها.
تنقل الإبنة معاناتها إلى أمها من خلال رسائل ترسلها إليها , لتصبح الرسائل جزءاً من تنوّع الأساليب السردية التي استخدمتها (( إنعام كجه جي)) في روايتها , إضافة إلى الفصول المروية على لسان الراوي العالم بكل شيء , والفصول الأخرى المكتوبة على لسان إبنة أخت (( وردية )) , لا يوجد خط زمني صاعد أو هابط للأحداث , فتارة تأخذنا إلى الماضي وتارة تعود بنا إلى الوقت الحاضر , وكأنها أرادت أن يكون شكل روايتها مكتوباً بأسلوب (( طشاري )) الذي أثبتته كعنوان للرواية , ليرمز إلى الشتات العراقي في كل بقاع الأرض , وليكون عنواناً أيضاً لديوان شعري تكتبه إبنة الأخ , يسألها إبنها (( إسكندر)) عن معنى الإسم , تجيبه (( بالعربي الفصيح : تفرّقوا أيدي سبأ )) : ( وهوتعبير بحكم التركيب والمجاز كناية عن التفرّق والانتشار في كل وجه كما تبدّد سبأ وقومه , وأصله من قصة سبأ والسيل العرم الذي خَرّب اليمن وفَرَّق أهلها , ثم جرى مجرى المثل وشاع استعماله وصار تعبيرا اصطلاحيّا لخروجه عن معناه الأصلي إلى هذا المعنى البلاغي فصار له تأثير في النفس ) , وتوضّح أكثر (( تطشّروا مثل طلقة البندقية التي تتوزع في كل الاتجاهات , إنهم أهلي الذين تفرّقوا في بلاد العالم مثل الطلق الطشّاري)) , تنتهي الرواية , فيظلّ القارئ مأسوراً ومسكوناً بالحنين , الحنين الجامح إلى العراق بكل ما فيه , حتى لو لم يكن قد زاره من قبل.
اقتباسات من كتاب طشاري : نتجادل ونتشبث بالآراء ونفلسف الأوضاع ونوزع شهادات الوطنية والخيانة ونتفق ثم نختلف ثم نتعب ويصيبنا اليأس , اتفقنا عليه , اليأس , كهدف لنا طالما أن لا أمل يأتي من تلك البلاد , حيث يولد العراقيون فرادى و يموتون جماعات.
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟