صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8385 - 2025 / 6 / 26 - 23:26
المحور:
الادب والفن
مزبلة التاريخ , أو في بعض الأحيان يُطلق عليها مجمع نفايات التاريخ , أو صندوق قمامة التاريخ , أو مكب نفايات التاريخ , هي مكان رمزي يتم فيه إلقاء الأشياء كالأشخاص والأحداث والتحف والأيديولوجيات وما إلى ذلك عندما يطويهم النسيان أو يصبحوا مهمشين داخل صفحات التاريخ , يُكثر البعض استخدام (( التاريخ )) في مواجهة مَن لا يرون رأيهم , ففي السجالات المألوفة التي تواكب أحداثاً كبرى , كما الحال مع مايجري حولنا , نسمع من يصف المقابل , بأنّه لا يقف (( في الجانب الصائب من التاريخ )) , ثم لا بدّ أن ينتهي به المطاف إلى استخدام عبارة (( مزبلة التاريخ )) , في استعارة منه للتعبير الذي استخدمه (( ليون تروتسكي )) عندما تحدث عن خصومه من المناشفة الروس , قائلا : (( إنكم أناس بائسون منعزلون , أنتم مفلسون , انتهى دوركم , اذهبوا إلى حيث تنتمون , من الآن فصاعدًا أنتم في مزبلة التاريخ )) , ومنذ ذلك الحين أصبحت تستخدم بمعنى حقيقي وساخر على حد سواء في السياقات السياسية وغير السياسية.
(( مزبلة التاريخ )) عبارة تتردّد كثيراً على ألسنة السياسيين , وكثيراً جدّاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي حيث يستعملها الناس في مجملهم للتعبير عن نهاية شخص أو حدث أو أيديولوجية, التتبّع التاريخي لهذه العبارة يوصلك إلى أنّ ظهورها الأوّل كان في القرن التاسع عشر في أماكن عديدة من كتب وخطابات , تواصل استخدام هذا المصطلح عبر كبار السياسيين في العالم , وأبرزهم الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان الذي قال أمام مجلس العموم في 8 حزيران 1982 إنّ (( الحرّية والديمقراطية سيخلّفان الماركسية واللينينية في مزبلة التاريخ )) , ثمّ استعملها وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف مخاطباً رئيس حكومة العدوّ الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في 4 حزيران 2021 بعد خسارته للانتخابات الإسرائيلية قائلاً : (( نتانياهو يذهب إلى مزبلة التاريخ مثل ترامب وبولتون وبومبيو )) .
عندمَا يتسلَّل الباطلُ لواذًا ويلجُ ثم يتغلغلُ داخلَ أحشاءِ الحقِّ ظلمًا وجورًا , وذلكَ بحمايةِ جبابرةِ الباطلِ , فإنَّه يترعرعُ داخلَ أحشاءِ الحقِّ , وينمُو حتَّى يبلغَ رشدَه الخاطئَ , ثم يُشهرَ سيفَه الظَّالمَ في ربوعِ القائلةِ ويتجوَّلَ داخلَ مساربِ الحقِّ , ويقطعَ عنقَ كلِّ مَن يواجهُ من المعارضِين لهُ من أنصارِ الحقِّ , ثم يشطُر بسيفهِ الغاشمِ الحقَّ إلى نصفَين , ولكنْ قد يمرضُ الحقُّ جرَّاء ذلكَ , ويدخلُ الإنعاشَ لكنَّه لا يموتُ , وذلكَ لأنَّ أساسَهُ متجذِّرٌ في حقيقةِ الحياةِ الأبديَّةِ فلا يموتُ أبدًا , ومهمَا طالَ أمدُ وعمرُ الباطلِ وهو يصولُ ويجولُ داخلَ مساربِ الحقِّ بحمايةِ الجبابرةِ , فإنَّ الحقَّ ينتفضُ يومًا مَا وينتقمُ من الباطلِ عن كلِّ ثانيةٍ مكثَها في داخلهِ ظلمًا وعدوانًا , ثمَّ يقتلهُ والذين حمُوه من الجبابرةِ طيلةَ إقامتهِ مزروعًا داخلَ أحشائِهِ , وذلكَ هُو مَا يحدثُ مع باطلِ الكيانِ الغاصبِ (دولةِ إسرائيلَ) التِي زرعهَا وحمَاهَا جبابرةُ الصهاينةِ على مدَى فترةِ ثمانِين عامًا في أرضِ فلسطينَ المحتلةِ المُحقَّة لأهلِها الأصلِ , ولكنْ مَا هُو إلَّا بطنٌ قد حمَلَ الباطلَ سفاحًا , ثمَّ أسقطهُ خداجًا في وسطِ أرضِ فلسطينَ , وسيأتِي وقتُ الفرجِ , ويأتِي زمنُ حياةِ الحقِّ , فيتعملق ثمَّ يُردِي الباطلَ وجبابرتهُ قتلَى في معركةٍ يفوزُ فيهَا الحقُّ على الباطلِ , ثم يُلقِي بهِم جميعًا في مزبلةِ التاريخِ غير مأسوفٍ عليهم.
كان فرنسيس فوكوياما , آخر من أفتى في شأن التاريخ بحركته ووجهته , فأعلن , مع نهاية الحرب الباردة , عن إقفاله على انتصار كاسح ونهائيّ للديمقراطيّة الليبراليّة , ورغم اختلاف النشأة الفكريّة , والفوارق التي تفصل بين مؤمن وملحد , ويمينيّ ويساريّ يبقى أنّ النهاية السعيدة قاسم مشترك بين مدارس الجزم بوجهة التاريخ , فالخلاص سوف يعزف نشيده في النهاية , وسوف تعود البشريّة إلى زمن يشبه الزمن الذي ساد قبل أن يُطرد آدم وحواء من الجنّة وتتردّى العلاقة بين الخالق والمخلوق , إذ هل يُعقَل أن لا ينتصر الحقّ والعدل على الباطل والظلم ؟ وأن لا يُعطى للمتفائلين بالأمل والسعادة ما تفاءلوا به؟ ونظراً إلى القوّة التي تتمتّع بها فكرة (( العودة )) , استعان بعض الملاحدة بالفكرة المذكورة لدى المؤمنين فصاروا يتوقّعون ((عودة )) ماركس كلّما ألمّت أزمة باقتصاد راسماليّ , وهذا علماً بأنّ القيّمين على ذاك الاقتصاد لم ينفوا عيشه في أزمات , أمّا الذين يشكّكون بالعودة تلك , تشكيكهم بالعودات السابقة , فلن يكون في انتظارهم , بحسب العارفين بوجهة التاريخ , سوى (( مزبلته )).
تظل هذه العبارة الرمزية حاضرة بقوة في الوعي الجمعي , لتصبح مجرد هوامش في صفحات التاريخ , عندما يتحول التاريخ إلى ساحة معركة لفظية , وهكذا تنتقل المعرفة المزعومة بالتاريخ إلى تملّكٍ له من صنف إقطاعيّ , يتيح توزيع أعطياته على الناس , فيُمنح البعض أسرّة وثيرة في صالونات التاريخ , بعدما يُلقى بسواهم إلى مزبلته , ويبقى المولعون بالعرافة والتنجيم وقراءة البخت هم الأكثر انجذاباً إلى الجزم بوجهة التاريخ , والأشدّ حماسة لإحالتنا إلى مزبلة لم تعدد تتّسع لأحد بسبب ملايين الناس الذين حُشروا فيها , أمّا تجنّب السقوط في مزبلة الواقع فلا يحظى , للأسف , بما يستحقّه من عناية.
منذ تروتسكي إلى واقعنا المعاصر , اكتسبت هذه العبارة زخمًا هائلاً, وأصبحت تُستخدم بمعنى حقيقي وساخر على حد سواء , ليس فقط في السياقات السياسية , بل في مختلف مناحي الحياة , إنها تعبر عن الازدراء , التهميش , والإعلان عن نهاية حقبة أو فكرة أو حتى شخص , فكم من الأفكار التي كانت سائدة في زمن ما أصبحت اليوم مجرد ذكرى تُلقى في (( مزبلة التاريخ )) ؟ وكم من الشخصيات التي كانت تحتل الصدارة انتهى بها المطاف إلى النسيان؟ إن استخدام هذه العبارة يعكس رغبة عميقة في حسم الجدالات وتصنيف المواقف , فمن خلال دفع الآخر إلى (( مزبلة التاريخ )) , يرى البعض أنه يحسم النقاش ويبرهن على صواب موقفه , محاولًا إضفاء صبغة (( تاريخية )) على رؤيته , وكأن التاريخ قد حكم بالفعل لصالحه , ولكن هل يمكن لأي شخص أن يحدد من يستحق أن يُلقى في (( مزبلة التاريخ )) ؟ وهل التاريخ حقًا يمتلك (( مزبلة )) دائمة لا رجعة فيها , أم أنه مجرد مفهوم يتغير بتغير الزمن والمنظور؟ هذه الأسئلة تظل مفتوحة , لتدعونا إلى التفكير مليًا في كيفية استخدامنا للغة , وفي قوة الكلمات التي نلقيها في خضم صراعاتنا اليومية.
يقول أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس (وصف زوال المجد) , للتعبير عن فكرة النسيان و زوال الدول والأفكار والأشخاص إلى (( مزبلة التاريخ )) : (( لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمَّ نُقصانُ فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ , هِيَ الأَيّامُ كَما شاهَدتَها دُوَلٌ مَن سَرَّهُ زَمَنٌ ساءَتهُ أَزمانُ )) , وللتعبير عن تقلبات الدهر وتغير الأحوال , للإمام الشافعي أبيات يمكن أن توظف في الحديث عن أن (( مزبلة التاريخ )) ليست سوى محطة في تقلبات الدهر, وأن ما يُلقى فيها اليوم قد يعود للظهور بشكل آخر غدًا , أو أن مصير (( مزبلة التاريخ )) هو جزء من طبيعة الدنيا المتقلبة : (( دَع الأَيّامَ تَفعَل ما تَشاءُ وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ ,وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ )) , وللتركيز على زوال الأشخاص والأثر , ومصير الأفراد والأفكار التي تندثر مع مرور الزمن , لتجد مكانها في (( مزبلة التاريخ )) يقول أبي العتاهية : ((حَياةُ المَرءِ إِن دامَت طَويلاً مَصائِرُها إِلى حَتمِ الفَناءِ ,وَكَم مِن سالِفٍ خَلَت قُرونٌ أَتوا وَمَضوا إِلى دارِ الفَناءِ )) .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟