صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8374 - 2025 / 6 / 15 - 13:43
المحور:
الادب والفن
أحتوت مذكرات الوزير السابق الاستاذ مكرم الطالباني أضاءات منها ماورد في ص 33 يقول : (( هناك مثل كردي عن البخيل يقول : ( تتمكن الدجاجة ان تفقس بيضها في موقده) , وهذا يعني انه لايطبخ ولا يطعم احدا )) , وقد ذكرني ذلك بما كتبه الجاحظ عن البخل في كتابه (( البخلاء )) , والذي يدور حول السخرية والتهكم عليهم , وتقديم أمثلة كوميدية عن البخلاء , مع نقد للأفعال والسلوكيات التي تظهر البخل , يوضح الجاحظ أن البخل ليس مجرد إبقاء المال , بل هو حالة نفسية و سلوكية تدفع الشخص إلى التقتير والحرص المفرط على المال , ومن أخلاق الإمام علي : قوله: (( الْبُخْلُ جَامعٌ لِمَسَاوِئِ الْعُيُوبِ , وَهُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بهِ إِلَى كُلِّ سُوء )) .
يقول المثل : (( من جاد ساد , ومن بخل رذل وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه )) والبخل أن يرى الرجل ما أنفقه تلفًا وما أمسكه شرفاً , و (( الجبان يزعم أنه حذر, والبخيل يزعم أنه مقتصد )) , واليد المضمومة لا تستطيع أن تصافح أحداً , والبخيل شخص يعيش طيلة حياته دون أن يتذوق طعم الحياة , والبخيل لماله , أما ماله فليس له , ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر , وأنها لقمة الجنون أن يعيش المرء فقيرًا ليموت غنيًا , وقد قالوا (( كي نوفر مسماراً نفقد حصاناً )) , وأذا كان المبذر شحاد المستقبل , فالبخيل شحاد خالد , وكنوز البخيل تؤول إلى اللصوص والملوك , ودائما مانرى ان للأب المقتر ابن مبذر , و البخيل يسرق نفسه , أما المبذر فيسرق ورثته, وبعدما تشيخ الرذائل يبقى البخل شاباً , فسقام الحرص ليس له شفاء , وداء البخل ليس له طبيب , وهوقاطع المودات من القلوب , والبخلاء جمال عطشانة , رغم ان المياه محملة على ظهورها.
تقول أحلام_مستغانمي : (( لا صفة أبغض إلى قلبي من البخل , أرى البخل أبو العيوب و أمها , فيَدُ المرء على قدر قلبه , ومن يبخل بماله يبخل بحبه , ويبخل بوقته و بجهده , و يبخل حتى بنصحه أو بالكلمة الطيبة , التي هي في ديننا حسنة و صدقة , لذا لا أقيس خلق الناس إلاّ بقدر كرمهم , و لا أشفق عليهم إلاّ بمقدار إسرافهم أو بخلهم , فلا المسرف يعرف قيمة ما أهدر , و لا البخيل يُدرك فداحة ما خسر , وكلاهما لم يسمع بتلك الحكمة (( ما أنفقته على نفسي ضاع مني و ما أعطيته الناس باق لي أبد الدهر )) , وفي ابيات قديمة حفظناها واظنها كانت في مدح احد الكرماء او الامراء : (( تعود بسط الكف حتى لو انه ثناها لقبض لم تطعه انامله , تراه اذا ما جئته متهللا كانك تعطيه الذي انت سائله )) ,البخل لا يشترط ان يكون بخل المال انما هناك اناس يبخلون حتي بمشاعرهم يبخلون عليك حتي بالسؤال عنك وهذا اسوء انواع البخل , ان تبخل بمشاعرك على اقرب الاقربين اليك صفة البخل ذميمة وكريهة , فلماذا يبخل الانسان علي العطاء لغيره سواءا بالمال او بالمشاعر وهذه كلها تشمل الرحمة فالانسان القاسي لا يرحم ولا يعطي .
البخيل في حكايات الجاحظ غالبا ما يكون منتصراً , فهو الذي يستغل الولائم إذا كان ضيفاً , ويمنع الضيف إذا كان مضيفاً , وهو الذي يستغل ذكاءه وكل حيلةٍ يعلمها في توفير الطعام , ومنع الناس ماله , وقد نقل إلينا الجاحظ (( قلتُ : لرجل قد رضيتَ بأن يقال عبد اللّه بخيل ؟ قال : لا أعدمني اللّه هذا الاسم , قلت : وكيف ؟ قال : لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال , فسلِّم إليّ المال , وادعني بأيّ اسم شئت , قلت : ولا يقال أيضا فلان سخيّ , إلا وهو ذو مال , فقد جمع هذا الاسم الحمد والمال , واسم البخل يجمع المال والذم , فقد اخترتَ أخسَّهما وأوضعهما , قال : وبينهما فرق , قلت : فهاته , قال : في قولهم بخيل تثبيت لإقامة المال في ملكه , وفي قولهم سخيّ إخبار عن خروج المال من ملكه , واسم البخيل اسم فيه حفظ وذمّ , واسم السخيّ اسم فيه تضييع وحمد , والمال زاهر, نافع , مُكرِم لأهله , معزّ , والحمد ريح وسخرية , واستماعك له ضعف وفُسولَة , وما أقلَّ غناء الحمد , واللّه , عنه , إذا جاع بطنه , وعَريَ جلده , وضاع عياله , وشمتَ به مَن كان يحسده )) .
لا يزال النقاد والدارسون يختلفون حول الجاحظ تلميذ أبي إسحاق النظام , المعتزلي , الذي ذهب بالمنطق نحو أقصاه , ثم دجّنه وعرّبه حتى أمسى يمشي على قدميه في أسواق البصرة , وقد رد على الشعوبية الفارسية التي حاولت تقزيم العرب والانتقاص من شأنهم في ظرف اعتقدوا فيه أنهم انتصروا فكريا وانهزموا عسكريا , وأبرز قيمة أخلاقية لم يعرفها الفرس ولم يعهدوها , ألا وهي الكرم , فالكرماء لا يحتاجون إلى مؤلفات ومصنفات في مدح صفاتهم , لكن الأضداد بالأضداد تُعرف , لذلك ألّف (( البخلاء )) وسلّط غضبه على سكان (( مرو )) الإقليم الفارسي الذي لم ينج إلى الآن من لعنة الجاحظ , كما لم تنج أيرلندا البريطانية من نكات الإنجليز واتهامهم لها بالبخل , وفي هذا الصدد كتب الجاحظ (( كنت في منزل ابن أبي كريمة , وأصله من مرو , فرآني أتوضأ من كوز خزف , فقال: سبحان الله , تتوضأ بالعذب , والبئر لك معرضة ؟ قلت : ليس بعذب , إنما هو من ماء البئر, قال : فتفسد علينا كوزنا بالملوحة , فلم أدر كيف أتخلص منه )) , ومن قصص أهل خراسان أيضاً, (( لم أر الديك في بلدة قط إلا وهو لافظ , يأخذ الحبة بمنقاره , ثم يلفظها قدام الدجاجة , إلا ديكة مرو , فإني رأيتها , تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب , فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد وفي جواهر الماء , فمن ثم عم جميع حيوانهم )) .
يقول المروزي للزائر إذا أتاه وللجليس إذا طال جلوسه : تغديت اليوم ؟ فإن قال نعم , قال : لولا أنك تغديت لغديتك بغداء طيب , وإن قال لا , قال : لو كنت تغديت لسقيتك خمسة أقداح , بيد أن من أظرف حكاياته ما جرى لجماعة من الأصحاب الخراسانيين الذين ترافقوا في منزل وقرروا الاشتراك في مصباح , ولكن واحداً منهم أبى الاشتراك في تكلفة الزيت , فعمدوا إلى شد عينيه بمنديل عندما يشعلون المصباح لئلا يستفيد من نوره , ثم يفكون المنديل عن عينيه عندما يطفئون المصباح , وعلى غرار هذه الحكاية وردت قصة الرفاق الذين ترافقوا على الطبخ سوية , كانوا يقطعون اللحم ويأخذ كل منهم قطعته فيشدها بخيط ثم يرسلها مع الآخرين في قدر يشتركون فيه ليس حباً في المشاركة والصحبة وإنما اقتصاداً في الحطب والخل والثوم والتوابل , ثم يسحب كل منهم لحمته بالخيط الذي علمه ثم يقتسمون المرق , وأخيراً , يجمعون الخيوط معاً ويحفظونها بعد أن تكون قد تشربت بالدسم والتوابل ليعيدوا استعمالها في مرة قادمة وهي مشربة بذاك .
أفرد الجاحظ للكندي بابا كان غاية في الرشاقة اللغوية , الذي خصص له فصلا في كتابه سماه (( شروط الكندي على سكان بيته )) , وفيه يشترط على المستأجر عدم الكثرة من استعمال الأدراج خشية أن تهترئ , حيث يقول فيلسوف العرب ناصحا ابنه : (( يا بني , الأب ربّ , والأخ فخّ , والعمّ غمّ , والخال وبال , والأقارب عقارب , وقول لا , يزيل البلاء , وقول نعم , يصرف النعم )) , وهكذا لم يكن البخلاء في كتاب الجاحظ إلا ذريعة للاستعراض في فنون المنطق , ولا يزال الكتاب نبعا تنهل منه الدراما البشرية منذ العصر العباسي , يقول الجاحظ صاحب كتاب البخلاء في داء البخل :
(( يَطيِّبُ العَيشَ أنْ تَلقى حَليماً غِذاهُ العِلْمُ والرَّأيُ المُصيبُ
ليكشِفَ عَنكَ حِيلةَ كلِّ رَيبٍ وفضلُ العِلمِ يَعرفُهُ الأريبُ
سُقامُ الحِرصِ لَيسَ لَه شِفاءٌ , ودَاءُ البُخلِ لَيسَ لَهُ طَبيبُ )) .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟