أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة البصرة .















المزيد.....

مقامة البصرة .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8358 - 2025 / 5 / 30 - 23:57
المحور: الادب والفن
    


مقامة البصرة :

أهداني الدكتور تحسين طه أفندي نسخة من كتاب (( الأوائل في البصرة )) , وهو من تأليف تلميذته الدكتورة سلمى عبد الحميد حسين الهاشمي وأصدار العتبة العباسية , ويتضمن استقصاء للريادة والسبق في المنجز الحضاري في البصرة من التمصير الى سقوط الدولة العباسية , أي للفترة (( 14 هجري - 656 م الى 635 هجري - 1258 م )) والمعروف ان علم الأوائل يؤرخ لبدايات ظهور الأشياء والحوادث , وان مفردة الأوائل تشيع في الأستعمال عند الكتاب و المؤلفين من قبيل قولهم : (( لولا مارسمت لنا الأوائل في كتبها , أو ماسنته الأوائل , أو ما أسسه الأوائل , وآراء الأوائل , وهكذا عرفنا الكتابة في تثبيت الأوائل في علم من العلوم أو أتجاه من الأتجاهات مما أنتجه الفكر الأسلامي في مرحلة نضجه الفكري .

تقول المؤلفة انه قد كان لمدينة البصرة قصب السبق والريادة في استحداث بعض النظم والعديد من الأسهامات التي ترسخت فيها او تلك التي انتقلت منها الى مختلف البلاد الأسلامية , وهي تركز على ذكر الأوائل في الجانب السياسي , وأوائل النظم الأدارية المستحدثة في البصرة , والأوائل في الجانب العمراني , والجانبين الأجتماعي والأقتصادي , وأوائل الأسهامات في المجال الفكري , فالبصرة كانت طوال العصور الأسلامية مدينة الأوائل , وفيها برز أوائل الأوائل , وأستحقت ان تنال لقب (( عين العراق )) , ولقب (( أم العراق )) , لأهميتها وريادتها .

لنخرج الآن من سرد الدكتورة والكتاب ونستذكر ألأغنية البصرية التي تقول : (( بصرتنا ماعذبت محب , واحنا العشك عذبنا , يابو بلم , شط العرب يعرفنا وموالفنا , ياما گعدنا والنخل , عالي النخل فيّ إلنا )) , وهكذا حين نتحدث عن الأدب والحياة بمجملها في العراق , فإن البصرة ستقف في المقدمة من هذا الحديث , بل لا يمكن الحديث عن الأدب والريادة من دون الحديث عن دور البصرة بصفتها مصدراً للتنوير والتحولات في الأدب والحياة , وهذه القضية لها دواعٍ كثيرة , تقف في مقدمتها طبيعة البصرة بصفتها ميناءً يستقبل ويودع يومياً آلاف الجنسيات الأجنبية , مما يعني أن البصرة موئل للثقافات وللاختلاف , وقبل الميناء, سيلوح لنا التاريخ بيده وهو يتحدث عن نفسه في أزقة البصرة القديمة , حيث ولد الفلاسفة والمفكرون والشعراء والكتاب والمشاكسون لكل شيء , فالبصرة هي المكان الذي نبتت فيه المدارس الفكرية , والكلامية , والفلسفية , والنحوية , والشعرية , ففي أزقتها درج بشار بن برد وأبو نواس , وفيها شبَّ الخليل بن أحمد الفراهيدي , وبين حاراتها القديمة ولد الجاحظ , وكتب (( بيانه وتبيينه )) فيها , وسار في شوارعها , ودفن في ترابها , ومنها انطلقت المدارس النحوية والميولات العقائدية , وتحت شمسها اللاهبة دارت الصراعات الكبرى , فما عرفنا المعتزلة وواصل ابن عطائها إلا من جوامع البصرة ومدارسها الفكرية , ولا اقتربنا منه إلا حين اعتزل درس أستاذه الحسن البصري في قلب البصرة القديمة , وما تراب البصرة الآن إلا ترابٌ غفت تحت أدراجه العقول العظيمة , وتسللت تحت رمضائه الأفكار الكبرى , وما السائر فوقها إلا وهو يسير على مئات السنين من الروح الحية فيها , وكبار السحرة الذين ملأوا العقل العربي نوادر وقصصاً ومعارف لا تنفد.

البصرة عصية على التوصيف , فنحن لم نسمع بالتعايش الحقيقي بين جميع أهل الديانات إلا في البصرة , التي انفتحت للكل حتى لمن ليس له دين , فإذا كان العراق جمجمة العرب -كما يقولون- فقطعاً ستكون البصرة هي العقل الموجود داخل هذه الجمجمة , ودائماً ذلك العقل هو المحرك لكل أطراف الجسد , به يفكر , وبسبب من إيعازاته يقوم الجسد , وتتفتح العيون , وينطلق اللسان , والبصرة لم تكن على طول عمرها في التاريخ إلا حاضنة للحوار, وضحكة نبتت على ثغر هذه البلاد الموكولة بالأنين , والراعية لكل المواويل , والبصرة خبزة لكل جائع , ونجمة مضيئة دليلاً للحائرين , لم نسمع يوماً أن البصرة أكلت أبناءها , ولا مر على تاريخها الطويل أنها سكبت أحبتها في البحر , بل دائماً نسمع عنها أنها عبارة عن بيت ومضيف كبير يلوح للقادمين والجائعين والسهارى في النوم بحب تحت أركانه , وحين نتحدث عن بصرة القرن العشرين والحادي والعشرين , فإننا لم نعرف إلا أنها تستقبل الملوك بضحكتها , وتودع العشاق بغمزة عين , فتحت شواطئها فنبت الغناء تحتها , وبين أمواجها صدح المغنون , وخلف سفائنها ناح التائهون , ومن خلالها عرفنا الهند وما وراءه , وبسببها زرع الخليج أحلامه , نخلها أكثر من أحلام أبنائها , وحلم أبنائها أشهى من برحيها ورازقيها.

البصرة مدينة عراقية غنية بالتاريخ والثقافة , وهي خبزة لكل جائع , ونجمة مضيئة دليلاً للحائرين , و بيت ومضيف كبير يلوح للقادمين والجائعين والسهارى في النوم بحب تحت أركانه , وثغر العراق ومنفذه البحري الوحيد , وقد صدح في مدحِها ومدحِ أهلِها ذات مرّة فصيح مُضَر, وفصيح العرب أجمعين , خالد بن صفوان المنقريُّ التميميُّ البصريّ (توفي سنة 139 هجرية) , قائلًا لسائلهِ مسلمة بن عبد الملك بن مروان : (( يغدو قانِصُنا فيجيء بالشبّوط والشيّم (أنواع من السمك الجيد) , ويجيء صيّاد البرّ بالظبي والظليّم , ونحن أكثر الناس عاجًا وساجًا وخزًّا (من الحرير) وديباجًا وبرذونًا (من أوصاف الخيل) , وهِملاجًا وخريدة مِغناجًا , بيوتنا الذهب , ونهرنا العجب , أوّله الرُّطب , وأوسطه العِنب , وآخره القصب , فأما الرطب عندنا , فمن النخل في مباركه , كالزيتون عندكم في منابته , هذا على أفنانِه , وَذاك على أغصانِه )) , إنها البصرةُ العراقيةُ الحجازيةُ النجديةُ المُضريةُ الهنديةُ الإسكندريةُ النبطيةُ الراشديةُ الأمويةُ العبّاسية , أُبلّة الزمن القديم , منطلق السندباد وأمّ العراق , خزانة العرب وعين الدنيا , ذات الوِشاميْن والفيحاء , ملتقى دجلة والفرات , أفق شط العرب الذي لا يهادن ولا يخلع الأصحاب .

في بدايات الفتوحات الإسلامية , صار للبصرة قيمة مضافة بوصفها مدينة عسكرية شيّدها عتبة بن غزوان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب سنة 14, وقيل 15هـ ، عند ملتقى نهريّ دجلة والفرات , ويعرف ملتقاهما بشط العرب, وقيل إن سبب تسميتها بالبصرة هو أن عتبة بن غزوان كتب إلى الخليفة عمر يستأذنه في تمصيرها ووصفها لهُ بقولهِ : (( إني أرى أرضًا كثيرة الفضة في طرف البرّ إلى الريف ودونها مناقع فيها ماء وفيها قصباء )) , فقال عمر بن الخطاب: (( هذه أرضٌ بصرةٌ قريبةٌ من المشارب والمراعي والمحتطب )) , وعلى أهمية القيمة العسكرية من وراء إنشاء مدن تحتضن حاجات الجنود , وعائلاتهم , وغنائمهم , وتريحهم من السفر الطويل الشاق إلى مواطنهم البعيدة النائية , فتصير هي موطنهم الجديد , ومستقرهم الآمن المحصّن القريب من جبهات القتال , إلا أن الخليفة عمر بن الخطاب , أضاف إلى كل ذلك , أهمية جديدة , حين أتاح للجند وقادتهم أن يفلحوا الأمصار العسكرية , مثل الكوفة والبصرة , وأن يزرعوها تحت عنوان (( الأرض لمن يزرعها )) .

هل يبالغ من يقولون إن أنهر البصرة وصل عددها ذات زمان إلى زهاء عشرين ألف نهر؟ لعل جوابًا دقيقًا لن يتحقق في يوم من الأيام عن هذا السؤال , ولكن من زار المدينة من الرحّالة والمؤرخين لم يستغرب هذا الرقم , بل مالَ بعضهم إلى تأكيده , وذكْر ما يوثّق صحته , كثير من بيوت البصرة وقصورها بُنيت على حواف الأنهر, كما بات حال البنايات على حواف القنوات البحرية في مدينة البندقية الإيطالية بعد البصرة , وكانت تُتْرَكُ للمارّة والعربات والحيوانات , شوارع وممرّات ودروب بين الأنهار والبيوت , كما فعلت العاصمة الهولندية أمستردام في ما بعد , علمًا أن قنوات البندقية , أو انهار أمستردام , لا تقارَن بطبيعة أنهار البصرة وتعدادها , كما أن تلك الأنهر كانت مزيّنة بأشجار النخيل والبساتين , عكس قنوات البندقية الخالية من أيِّ زرع , وأنهار أمستردام قليلة الأشجار.

يبقى شعر بدر شاكر السيّاب (1926 ـ 1964) , رغم قصر عمره , دائم الجريان , هناك في جيكور حيث الصبايا (( يُوسْوِسنَ بين النخيل )) , وحيث ولد أحدُ أهمّ مؤسّسي قصيدة التفعيلة والشعر الحُر على وجه العموم , ينبت القصبُ خيالاتِ خصب , ويزهر من النهر ألفُ نهر, ويصعد المطرُ أنشودةً : (( عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ , أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ, عيناكِ حين تَبسمانِ تورقُ الكروم , وترقص الأضواءُ كالأقمارِ في نهَرْ )) , فاترك حنينك يا ابن السيّاب ينتهي به الطواف حتى تمرّدِ المهلهل أبو ليلى الزير سالم, حيث ربيعة القبيلة تجمعكما معًا في بلاد تنتمي للقبيلة أكثر من انتمائها لمدنيّة البرّ وفضّة البحر, واجمع حولك , لو أتيح لك , باقي رَبْع الإبداع في ناحيتك وقضائك الخصيب (تتبع جيكور لقضاء أبي الخصيب) : سعدي يوسف وباقي الشعراء البصريين المجددين .

مربد الشعراء : في سوق قديم من أسواق البصرة الطالعة من جِرار تمرٍ زنجبيل , كان الشعراء يتسابقون في منح الحرف روحًا مشعّة بدفقات الجنوب , كان جرير يغسل في العكاظ الجديد ثوب الحكاية , والفرزدق يدق جدران البداية , وبشّار يتهجّى عربية مطعمة بفارسية تحنّ إلى شرقها في المجوس, وأبو نوّاس يفجّر ثورة الأهواز, والجاحظ والكندي وسيبويه والأصمعي والفراهيدي جميعهم , وغيرهم , مرّوا من هنا , من سوق لم يستطع الخراب أن يقطع أخباره , وها هم القوم يواصلون اليوم ما بدأه المربد من وصاله : مهرجان سنويٌّ للشعر, يستضيف العراق فيه العرب أجمعين , حتى في أقسى سنوات الحصار الغربيّ الاستعماريّ (ما بين 1991 وحتى 2003) , ظل المربد يستضيف العرب , يقاسمهم الإباء , ويفتح للشعر بأنواعه وحقوله وأنغامه وألغامه أفقًا.

صباح الزهيري .







الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة تكريم كريم .
- مقامة الطيور .
- مقامة المصطلم .
- مقامة النداوة .
- مقامة دين ابن عربي .
- مقامة الجزع .
- مقامة المطارف و الحشايا .
- مقامة يا أمة ضحكت .
- مقامة إلا الزلق .
- مقامة توقيت الأنسحاب .
- مقامة القوة الناعمة .
- مقامة حمار بوريدان .
- مقامة صبر النائبات .
- مقامة الموتات الأربعة .
- مقامة الديموقراطية .
- مقامة مطعم الجامعة .
- مقامة المثقف .
- مقامة مشوار .
- مقامة الأغوات .
- مقامة ضياع الزمن .


المزيد.....




- راهبتان برازيليتان تفاجئان مقدم برنامج ديني بالرقص والغناء
- 37 مليون جنية في أسبوع واحد بس! .. ايرادات فيلم مشروع اكس بط ...
- -أريد موتًا صاخبًا لا مجرد عدد-.. ماذا قالت بطلة فيلم وثائقي ...
- هونر تشعل المنافسة بين الهواتف العملاقة بهاتفها HONOR X9c ال ...
- -صحفيو غزة تحت النار-.. فيلم يكشف منهجية إسرائيل في استهداف ...
- شاهد/استقبال حافل بالورود للفنان الايراني همايون شجريان في ا ...
- ايران وحق تخصيب اليورانيوم.. والمسرحيات ا?مريكية الاسرائيلية ...
- “متفوتش الحلقة الأخيرة” القنوات الناقلة بجودة عالية القنوات ...
- ترامب يفرض رسوما جمركية بنسبة 100% على صناعة الأفلام السينما ...
- أهالي غزة يجابهون الحرب بالموسيقى وسط الدمار والحصار


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة البصرة .