أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة المطارف و الحشايا .














المزيد.....

مقامة المطارف و الحشايا .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8351 - 2025 / 5 / 23 - 15:19
المحور: الادب والفن
    


مقامة المطارف والحشايا :

يأسرني صاحبي الثمانيني بنشره المكثف , ويغريني بمحاورته , كتب على صفحته : (( صورة بالغة التعقيد لم يصنعها الا المتنبي , كانت الحمى الشديدة تأتيه ليلا ويقول : (( وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور الا في الظلام , بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي )) , الصورة المعقد ة : (( اراقب وقتها من غير شوق مراقبة المشوق المستهام )) , اعتقد إنه هنا يصف البردا اوالملاريا بعد ان اصيب بها , أما المطارف والحشايا فهي الوسائد والفراش , وبنات الدهر فهي المصائب والملمات , وقد قال ابن الشجري عن أبي الطيب المتنبي : (( فمن بدائعه قوله في الحمّى: وزائرتي كأنّ بها حياء … فليس تزور إلاّ في الظّلام بذلت لها المطارف والحشايا … فعافتها وباتت في عظامي , المطارف: جمع مطرف , ومطرف , وهو الذي في طرفه علمان , والحشايا: جمع حشيّة , وهو ما حشي ممّا يفرش )) .

يُعد أبو الطيب المتنبي قامة شامخة في سماء الشعر العربي , ولا يزال شعره حتى يومنا هذا يثير الدهشة والإعجاب بما يحمله من قوة في التصوير وعمق في المعنى , ومن بين الصور الشعرية البالغة التعقيد التي أبدعها هذا الشاعر الفذ , تبرز أبياته التي يصف فيها الحمى التي كانت تلم به ليلاً ((زائر الليل المستحي )) , حيث يجسدها في صورة زائر مستحي لا يأتي إلا في الظلام , فيا له من تصوير بديع , لقد بلغ المتنبي حقًا ذروة الإبداع في هذه الأبيات , وهذا التصوير الفريد , حيث استطاع أن يجسد الحمى الشديدة في صورة كائن حي زائر, بل ويضفي عليها صفة (( الحياء )) الذي يدفعها للمجيء في جنح الظلام , هذا التجسيد البديع يجعلنا نشعر بوطأة المرض وكأنه ضيف ثقيل الظل يتسلل في سكون الليل , وفي هذا المقطع الشعري القصير, يرتقي المتنبي بتجربته مع الحمى إلى مستوى فني رفيع , فبدلاً من وصفها بشكل مباشر كعارض صحي , يمنحها شخصية إنسانية كاملة الأوصاف , إنها (( زائرتي )) , أي ضيفي الذي يحل عليّ , ولكنها ليست كأي زائر , إنها تحمل صفة (( الحياء )) , وهي صفة إنسانية نبيلة تجعلها تتجنب الظهور في وضح النهار وتفضل سكون الليل وظلامه.

إن هذه الأبيات القليلة تحمل في طياتها عمقًا في التصوير وبراعة في التشبيه, لقد استطاع المتنبي أن يحول تجربة الألم والمعاناة إلى عمل فني بديع , يجسد قوة اللغة الشعرية في التعبير عن أدق المشاعر وأصعب التجارب الإنسانية , إن صورة الحمى كزائر الليل المستحي ستبقى خالدة في ذاكرة الأدب العربي , شاهدة على عبقرية المتنبي وقدرته الفائقة على الخلق والإبداع , ويكشف هذا التصوير عن براعة المتنبي في استعارة الصفات الإنسانية وتوظيفها لتجسيد المفاهيم المجردة كالأمراض , فالحمى , بحرارتها المتقدة التي تسلب الإنسان قوته , تُصوَّر هنا كزائر خجول يتسلل في هدوء الليل , ولكنه في الوقت نفسه ضيف ثقيل الوطأة , ويستمر المتنبي في هذا التجسيد البديع , وهنا , يصور الشاعر محاولاته للتخفيف من وطأة الحمى , حيث يقدم لها (( المطارف والحشايا )) , وهي الأغطية والفرش الوثيرة التي تُستخدم للتدفئة والراحة , ولكن هذا الزائر "المستحي" يرفض كل مظاهر الترحيب والراحة , ويختار بدلاً من ذلك أن يستقر في ((عظامي )) , أي في أعماق جسده , ليؤكد بذلك على شدة تأثيرها وتغلغلها.

أصيب المتنبي بالحمى وهو يستعد للرحيل عن أرض مصر , والخوض في متاهات الصحراء , مولياً وجهه لهجيرها وتقلبات أجوائها , ووطء الحمى التي تصهر جسده , وهي المرحلة التي أرخت لبداية نهاية اختلافه مع كافور الأخشيدي , بعد أن مل كل الوعود المؤملة الكاذبة , والتسويفات الوهمية , واستنفذ كل أمل له في الحصول على ولاية أو إمارة, وقالها في الحمى التي تسمى أحيانا زائرة الليل , لأن ضراوتها تشتد وأعراضها تمتد أثناء الليل , وقد أصيب المتنبي أحد أكثر شعراء العرب شهرة بالحمى الشديدة فشكا منها , وبكى بأربعة سجام , كان الشاعر مزمعا على الرحيل من مصر في ذي الحجة عام 348 , وعمره نحو 45 عاما , وذلك قبل وفاته بنحو ست سنوات , وهاجمته الحمى بضراوتها وارتفاع حرارتها وتقلب مزاجها , فحاول أن يصف أعراضها بأسلوب شعري رائع , فكانت قصيدته في اثنين وأربعين بيتا , حيث تبدأ قصة الحمى في القصيدة من البيت السابع عشر , يقول : (( أقمت بأرض مصر فلا ورائي... تخب بي المطى ولا أمامي)) , ثم يقول : (( وزائر تي كأن بها حياء... فليس تزور إلا في الظلام )) , ولم تخل قصيدته من إشارة جانبية إلى كافور الإخشيدي والي مصر, الذي تسبب في رحيله عن مصر, التي كان يحاول أن يحقق فيها آماله وطموحاته , وكان المتنبي يقاوم الارتفاع الشديد في درجة حرارة جسمه , وشعوره أحيانا بالبرد والارتعاش , كان يحس بجفاف حلقه وبالعرق الغزير يتصبب من جسده العليل , وصف المتنبي الحمى وكأنها فتاة يناجيها بشعره , ويحاول أن يتحداها بأسلوبه الدرامي , وقصيدته التي يتداولها الناس منذ القديم عن مرض الحمى من القصائد الجميلة التي ترسم بعض الملامح الواضحة عن طموح ذلك الشاعرالطموح وتحديه للمرض ولمصائب الدنيا وأحداث الحياة , والخلاصة من القصيدة أن الشاعر لم يتخل عن طموحه وعزيمته رغم المرض , وأن كل شيء في اعتقاده مصيره إلى الفناء .

ويحكى عن المتنبي أنه قال : (( كنت إذا دخلت على كافور وأنشده يضحك إليَّ ويبش في وجهي , حتى أنشدته هذين البيتين , فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا , فعجبت من فطنته وذكائه , والبيتان هما :
(( فلما صار ود الناس خبا جزيت على ابتسام بابتسامِ
وصرت أشك فيمن أصطفيه لعلمي أنه بعض الأنامِ )) .

صباح الزهيري .



#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة يا أمة ضحكت .
- مقامة إلا الزلق .
- مقامة توقيت الأنسحاب .
- مقامة القوة الناعمة .
- مقامة حمار بوريدان .
- مقامة صبر النائبات .
- مقامة الموتات الأربعة .
- مقامة الديموقراطية .
- مقامة مطعم الجامعة .
- مقامة المثقف .
- مقامة مشوار .
- مقامة الأغوات .
- مقامة ضياع الزمن .
- مقامة ألأستفهام .
- مقامة الزعل .
- مقامة الهذلي .
- مقامة غزال الكرخ .
- مقامة النساء أولًا Ladies First .
- مقامة عابرة .
- مقامة عمي .


المزيد.....




- وفاة المخرج الجزائري البارز محمد لخضر حمينة
- رحيل المخرج الجزائري محمد لخضر حمينة
- الفنانة السورية منى واصف بخير
- الفنان باسم ياخور يعود إلى سوريا (صور)
- -رسائل حب من اليمن إلى قطر- قصائد الشاعر بعداني تضيء كتارا
- وفاة المخرج والمنتج الجزائري الكبير محمد لخضر حمينة
- الأكاديمي باسم الشمايلة يحمل الدكتوراه ويقدم الشاي والقهوة ف ...
- الفنانة نادين نجيم توثق -تعرضها للتحرش- وتنشر لقطات للموقف و ...
- أصغر مسارح العالم يستأنف عروضه بعمل ساخر.. المشهد الثقافي ال ...
- مهرجان كان يعرض أحدث أفلام الأخوين داردين الطامحين لتحقيق رق ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة المطارف و الحشايا .