صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8347 - 2025 / 5 / 19 - 11:06
المحور:
الادب والفن
مقامة القوة الناعمة :
القوة الناعمة : Soft power (( هو مفهوم صاغه جوزيف ناي من جامعة هارفارد لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع )) , والمهارات الناعمة Soft Skills: التواصل الفعال , العمل الجماعي , حل المشكلات , القيادة , إدارة الوقت , الذكاء العاطفي , يقول الأديب الألماني الكبير يوهان فولفغانغ فون غوته : (( ليس هناك عقاب أقسى على المرء من العيش في الجنة بمفرده , فالمؤكد أن الوجود من دون الآخرين يبدو ضربًا من المستحيل )) , عبارة يمكن تلخيصها من خلال المثل الشعبي العربي الشهير: (( الجنة بدون ناس ما بتنداس )) , فالإنسان منذ أول وجوده , وقبل اختراع الكتابة وبداية الحضارة البشرية , قبل نحو ستة آلاف عام , وهو يميل إلى الاقتراب من أخيه الإنسان , عاطفيًّا ومصلحيًّا على حد سواء , مكونًا للجماعات والمناطق , حيث يدير الناس شؤون حياتهم معتمدين بعضهم على بعض , فالإنسان كان وما يزال وسيظل (( حيوانًا اجتماعيًّا )) وفق تعبير بعضهم , فهو ذو (( طابع مدني )) , كما يرى ابن خلدون .
هذا التمهيد يوصلنا إلى الحديث عن القوة الناعمة , وهو مفهوم يعبر عن قدرة دولة ما على جعل الدول الأخرى تنجذب لنظامها : الاجتماعي , والسياسي , والاقتصادي طوعًا لا كرهًا , من خلال التأثير في الجماعات والأفراد , عن طريق الآداب والفنون , والمؤسسات الثقافية , والسمعة الحسنة للدولة والمجتمع , ومن خلال التعاطي الإيجابي مع المؤسسات الدولية , هي باختصاركما قال (( ناي)) نفسه ذات مرة : (( أن تجعل الآخرين يريدون ما تريده أنت , متعاونين قانعين بلا إكراه أو إغراء )) , وكلما ازدادت قدرة الدولة على الجذب أو الإقناع , تحولت قيمها إلى مراد ومبتغى للشعوب الأخرى , فكم من شعب يطمح أن يرى بلده شبيهًا بأميركا أو فرنسا أو اليابان , وفي عالم اليوم , لا يمكنك بناء سمعة إيجابية في ظل الأصوليات , والتحزبات , والانغلاق , والطائفية , والقبلية , والمناطقية , والسير وراء من يلعبون على الغرائز, ويقتاتون على الخطاب الشعبوي لا النخبوي , والخطاب الديماغوجي لا الإصلاحي .
إن (( الدبلوماسية الثقافية )) من أهم أدوات القوة الناعمة , والتي تتمثل في تبادل اللغات والأفكار والعادات بين شعوب العالم , إضافة إلى إنشاء المؤسسات الثقافية في الدول الأخرى , مثل : (( معهد العالم العربي في باريس )) الذي تأسس عام 1987 , وعصب هذا كله حركة الترجمة وجودتها ونشاطها وفاعليتها , وحال الترجمة في بلداننا العربية كما يقال في الدارجة العربية , لا يسرُّ عدوًّا ولا صديقًا , ويكفي أن نقول : إن ما يترجمه العرب مجتمعين يعادل عُشر ما تترجمه البرازيل , مع العلم أن الأمة العربية تفوق البرازيل بضعف عدد السكان وأكثر قليلًا , وهنا لا ننسى أننا نتحدث عن البرازيل , تلك الدولة اللاتينية التي كانت في الماضي القريب قابعة في غياهب البؤس والضياع , ومن المؤسف أيضًا التقصير الحكومي اللافت في دعم الطباعة , ولا أدل على أهمية الترجمة من قول عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه الذي ضجت به الآفاق منذ أن صدر عام 1938 وحتى يومنا هذا , وهو كتاب (( مستقبل الثقافة في مصر)) : (( في حياتنا العقلية تقصير معيب يصيبنا منه كثير من الخزي , كما يصيبنا كثير من الجهل , وما يستتبعه الجهل من شر, ولا بد من إصلاحه إن كنا نريد أن ننصح لأنفسنا ونعيش عيشة الأمم الراقية )) .
جوزيف ناي المفكّر الأميركي في العلاقات الدولية , والذي كان عميداً لكلّية كيندي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد , وهي أشبه بكلية إعداد قادة , وأنه خدم في إدارتين رئاسيتين أميركيتين ديمقراطيتين (كارتر وكلينتون ) , وصاحب أشهر نظرية ومصطلح سياسي اجتماعي إعلامي في العقود الأخيرة ,عقود ما قبل ترمب , (( نظرية القوة الناعمة )) , شهد انقلاباً سافراً على أفكاره ونظرياته التي هيمنت طويلاً على فلسفة عمل الدبلوماسية الأميركية بعد وصول ترمب والترمبية , وهو يصرّ في مقابلاته الأخيرة على أن الرئيس ترمب لا يدرك مفهوم (( القوّة الناعمة )) , وأنّه خلال أشهر قليلة من توليه السلطة بدد معظم مصادرها وفكّك أدواتها , لقد كان ناي قد صاغ مفهوم القوة الناعمة في كتابه الشهير (( ملزمون بالقيادة : الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية 1990)) , ليصف قدرة الأمة في الحصول على ما تريد من خلال وسائل غير قسرية , عبر الجاذبيّة والإغواء بدلاً من الإكراه السافر القوة.
لقد درجنا على القول , منذ عقود الحرب الباردة , وما بعدها بقليل , على القول إن قوة أميركا الحقيقية ليست في جيشها الرهيب , الأول في العالم , ولا في مصانعها , بل في أيقونات مثل: (( كوكاكولا )) , (( ماكدونالدز )) , (( ديزني لاند )) , (( هوليوود )) , مايكل جاكسون، ليدي غاغا، تايلور سويفت... إلخ , وطبعاً , التبشير بالديمقراطية وحقوق الإنسان , وفرضها على العالم , أو التعامل مع العالم من خلال هذا القسطاس الأميركي الليبرالي الجديد , لكن الزلزال الترمبي , الذي تحرّكت طبقاته التكتونية , منذ 2017 , هزّت كل هذه الأعمدة التي اتكأت السرديات والأدبيات العالمية عليها حيناً من الدهر.
القوة الناعمة ليست قوة عسكرية أو اقتصادية مباشرة , بل هي القدرة على التأثير والإقناع من خلال الجاذبية , بواسطة أدوات ومصادر يمكن أن تشمل , الثقافة: (( الفنون , الأدب , الموسيقى , الأفلام , المطبخ , الرياضة , الأزياء )) , والتعليم: (( الجامعات المرموقة , البرامج التعليمية والتبادل الثقافي )) , والمنظمات غير الحكومية: (( الأنشطة الإنسانية , جهود التنمية , الدفاع عن حقوق الإنسان )) , ووسائل الإعلام والاتصال: القنوات التلفزيونية والإذاعية الدولية , المنصات الرقمية , الدبلوماسية العامة عبر الإنترنت )) , والقيم والمبادئ: (( الديمقراطية , حقوق الإنسان , سيادة القانون , التسامح , الابتكار)) , والسياسات الخارجية: (( المساعدات التنموية , الدبلوماسية متعددة الأطراف , مبادرات السلام , حماية البيئة )) , والقيادة والجاذبية الشخصية: (( شخصيات مؤثرة في مجالات مختلفة )) , والابتكار والتكنولوجيا: (( التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يجذب الاهتمام )) .
ان القوة الحقيقية هي التي تملك وجهاً باسماً وقبضة متوترة , أو العكس , وجهاً عابساً , ويداً حانية .
صباح الزهيري .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟