صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8345 - 2025 / 5 / 17 - 15:51
المحور:
الادب والفن
يتوقد صاحبنا الثمانيني حبا , وينشر على صفحته ك , (( اختيار, عدنا الى الصبر ندعوه كعادتنا في النائبات فلم يأخذ بأيدينا )) , بيت احمد شوقي الشهير من قصيدته (( أضحى التنائي )) , وحسب المعجم : النائبات : جمع نائبة وهي المصائب , ويظهر المستوى البلاغي حين يقول جئنا الى الصبر : حيث شبه الصبر بالانسان الذي يُطلب عونه ونجدته فهي استعاره مكنية فلم يأخذ بأيدينا , وفي المستوى الدلالي , يعني انه ما زال الشاعر متحسرا ً فلا يجد الا الصبر ليلجأ إليه , وينتمي به كعادتة في المصائب لكن الصبر يفاجأه هذه المرة ولا يسعفه ولا يساعده .
يقول المثل ألأنكليزي : ((A watched pot never boils )) , وترجمته بالعربي ((الإناء المُرَاقب لا يغلي أبدا )) , ومعناه إن الحاجة التي تنتظرها تحصل غالبًا بعد ان تأخذ وقت في ذهنك أطول من وقتها الحقيقي , ويمكن ألا تحصل أصلا مادمت تنتظرها وتترقبها لتحصل بسرعة , فمن الأفضل إن تنشغل عنها وتدعها تاخد وقتها الطبيعي ,
لذلك يقال إن الصبر هو فن العثور على شئ آخر تقوم به , وليس مجرد التحمل و الإنتظار و مراقبة الوقت كما قد يبدو, فالإنشغال بأعمال أخرى يعتبر أكثر أنواع الصبر نجاحًا و استمرارًا.
يا له من بيت شعر عميق يحمل بين طياته الكثير من المعاني , ويستلهم منه ما يعكس الإحساس بالخذلان عند الحاجة إلى الصبر, وخصوصا عندما ينادي الصبر فلا يجيب , بما يعبر عن صرخة في وجه نوائب الدهر , ولطالما تغنى الشعراء بالصبر, وعدوه مفتاح الفرج , وبلسم الجروح , وسلاح المؤمن في وجه نوائب الدهر , لقد تربينا على حكايات الأنبياء والصالحين الذين تجرعوا مرارة البلاء بصبر جميل , فكان العاقبة لهم خيرًا, حتى بات الصبر في ثقافتنا أشبه بصديق وفيّ , نلجأ إليه في الشدائد , ونستدعيه عند اشتداد الكرب , واثقين من أنه سيقف بجانبنا , يشد أزرنا , ويهدئ من روع قلوبنا.
الصّبرُ شجرةٌ جذورها مرة ولكن ثمارها شهية , ومن تذوق حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصّبر , وقديما قالوا : ((الصّبر على عطش الضر, ولا الشرب من شِرْعة منٍّ)), وأن أقوى المحاربين هما الوقت والصّبر , وبالصّبر واليقين تنال الإمامة في الدين , فلا بد من الصّبر ليجتاز العابدون البلاء , وصبرٌ قليلٌ يساوى راحة لعشرات السنين , وقد أبدع المتنبي حيث قال :(( كالخيلِ يمنعُنا الشّمُوخُ شِكايةً , وتئِنُ من خلفِ الضلوعِ جروح ُ, كم دمعةٍ لم تدرِ عنها أعينٌ , و نزيفها شهدتْ عليهِ الروح ُ)) , يقول غازي القصيبي قريب من هذا المعنى :(( تبكي الجيادُ.. إذا ترجَّل فارسٌ , ومن الصهيل.. توجّعٌ.. وَعَذابُ أرأيت دَمعَ الخيلِ؟ كم من عبرةٍ في الروحِ.. لم تعلم بها الأهداب )) .
ولكن , ماذا لو خذلنا هذا الصديق ؟ ماذا لو ناديناه في لحظة ضعف , وتوسلنا إليه في ساعة يأس , فلم يجب ؟ هذا بالضبط ما يجسده بيت أمير الشعراء أحمد شوقي : (( جئنا إلى الصبر ندعوه كعادتنا في النائبات فلم يأخذ بأيدينا )) , إنه صرخة مريرة تخرج من قلب مثقل بالهموم , قلب اعتاد أن يستمد قوته من الصبر , ولكنه وجده هذه المرة غائبًا , أو عاجزًا . أو ربما غير مكترث بآلامه , هذا الشعور بالخذلان من الصبر ليس غريبًا على النفس البشرية , فلكل منا لحظات عصيبة يشعر فيها أن طاقته قد نفذت , وأن قدرته على التحمل قد وصلت إلى أقصاها , في تلك اللحظات , نتمنى لو أن الصبر يتدخل كقوة خارجية , يمسح على قلوبنا , ويمنحنا دفعة جديدة لمواجهة ما تبقى من الطريق , ولكن الواقع قد يكون مغايرًا , فقد نجد أنفسنا وحيدين في مواجهة الألم , وأن الصبر ليس سوى فضيلة داخلية تحتاج إلى بذل جهد مضاعف للحفاظ عليها.
يطرح هذا البيت تساؤلات عميقة حول طبيعة الصبر وحدوده , هل الصبر قوة سحرية تأتي لنجدتنا متى شئنا ؟ أم أنه قدرة كامنة في داخلنا تحتاج إلى تفعيل وتقوية ؟ وهل هناك حدود لقدرة الإنسان على الصبر والتحمل ؟ قد يكون شوقي في هذا البيت لا يعبر عن يأس مطلق من الصبر, بل عن لحظة إنسانية صادقة يشعر فيها المرء بوطأة المصيبة لدرجة أنه يتمنى لو أن الصبر يحمله حملًا , وينقذه من براثن الألم دون الحاجة إلى بذل أي جهد , إنها لحظة ضعف بشري نتوق فيها إلى معجزة , إلى يد تربت على كتفنا وتقول : (( كفى , لقد انتهى كل شيء )) , ولكن , حتى في هذا الخذلان الظاهري للصبر, قد نجد فيه حكمة خفية , فربما يكون الهدف من هذا الشعور هو أن نتعلم الاعتماد على قوتنا الداخلية بشكل أكبر , ربما يريد منا القدر أن نكتشف في داخلنا مخزونًا من الصلابة لم نكن نعلم بوجوده , ربما يكون الصبر الحقيقي ليس في انتظار الفرج السلبي , بل في الاستمرار في المحاولة , والبحث عن حلول , وعدم الاستسلام لليأس , حتى وإن بدا الطريق طويلًا ومظلمًا , في نهاية المطاف , يبقى بيت شوقي هذا تذكيرًا بأنه حتى أعظم الفضائل قد تبدو غائبة في أحلك اللحظات , ولكنه أيضًا دعوة مبطنة إلى البحث عن القوة في داخلنا , وتفعيل قدرتنا على التحمل الذاتي , فربما يكون الصبر الحقيقي هو الصبر على غياب الصبر الظاهري , والاستمرار في المسير رغم كل الصعاب.
ماذا يعني الصبر؟ يعني أن تنظر إلى الشوكة وترى فيها وردة , أن تنظر إلى الليل وترى فيه الفجر , أما نفاذ الصبر فيعني أن تكون قصير النظر إلى الحد الذي لا تستطيع فيه رؤية النتيجة , إن الصوفية عشاق الله لا يفقدون الصبر , لأنهم يعلمون بأن الوقت ضروري كي يصبح الهلال بدراً , وأن علامة العاقل : الصبر عند المحنة , والتواضع عند السعة , والأخذ بالأحوط , ويقول ابن دارج القسطلي : (( ما أحسن الصبر فيما يحسن الجزع وأوجد اليأس ما قد أعدم الطمع , وللمنايا سهام غير طائشة وذو النهى بجميل الصبر مدرع , فإن خلت للأسى في شجوها سنن فطالما أحمدت في كظمها البدع )) , وقال عنترة بن شداد العبسى يذكر حربا كان فيها :(( فصَبَرْتُ عارفةً لذلك حُـرةً ترسو إذا نفسُ الجبانِ تَطَلَّعُ )) .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟