صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8344 - 2025 / 5 / 16 - 14:41
المحور:
الادب والفن
مقامة الموتات الأربعة :
يقول الشيخ الأكبر محي الدين العربي في الفتوحات المكية ص 258 ج1 : (( والطائفة تسمي الجوع في الموتات الأربعة الموت الأبيض , وهو مناسب للضياء فإن لأهل الله أربع موتات , موت أبيض وهو الجوع , وموت أحمر وهو مخالفة النفس في هواها , وموت أخضر وهو طرح الرقاع في اللباس بعضها على بعض , وموت أسود وهو تحمل أذى الخلق بل مطلق الأذى , وإنما سميت لبس المرقعات موتا أخضر لأن حالته حالة الأرض في اختلاف النبات فيه والأزهار فأشبه اختلاف الرقاع , وأما الموت الأسود لاحتمال الأذى فإن في ذلك غم النفس والغم ظلمة النفس والظلمة تشبه في الألوان السواد , والموت الأحمر مخالفة النفس شبيه بحمرة الدم فإنه من خالف هواه فقد ذبح نفسه )) , وفي علم الآخرات المسيحية , الأشياء الأربعة الأخيرة : (( هي الموت, الدينونة , الفردوس, والجحيم , وهي المراحل الأربع الأخيرة للنفس في الحياة والآخرة , لوحة هيرونيموس بوش التي رسمها عام 1500 بعنوان (( الخطايا السبع المميتة والأشياء الأربعة الأخيرة )) , بالنسبة لنا نحن البسطاء , من الغموض نخرج إلى الحياة , ومن الحياة نرحل إلى الموت , وبين الشكوك نحيا , ونتوارى خلف ثِقَل العبث , زحام النقيض يُنصِّب نفسه علينا , لم يعد في وسع الأيام تصدي قذائف الذهول , فلكل فجر نشيده.
قال أبو العتاهية: (( لِدوا للموت وابنوا للـخـراب فكلكم يصير إلـى تـبـاب , لمن نبني ونحن إلـى تـرابٍ نصير كما خلقنا للـتـراب , ألا يا موت لم تقـبـل فـداءً أتيت فما تحيف ولا تحابـي , كأنك قد هجمت على مشيبي كما هجم المشيب على شبابي )) .
تُسيِّج الديانات الأخرى الموت بأجوبة مبرمة عن مصير الأرواح والأجساد , وتجعل المرء يرى في الموت أمرًا معقولًا لا عبث فيه , ففكرة الحياة الأخرى أجبرت الإنسان على ابتكار ممارسات جنائزية تضمن مرور الميت إلى زمنٍ ووضعٍ آخرَين يُطَمْئنان مقرّبيه الأحياء ويهدِّئان من روعهم , حيث لا تزال إشكالية الموت مطروحة في جميع الأزمنة والأمكنة , وما انفكّ الباحثون يُنشئون شبكة معقدة من التفسيرات الأسطورية أو العقلانية أو الفلسفات لقراءة شفرة الموت فلا يفلحون , فمنذ بزوغ العقل الفلسفي ما قبل اليوناني إلى العصر الحديث , طغت ثنائية شهيرة تقرن الروح بالجسد ليثمرا الحياة , ثم يفترقان بعدها بالموت , وحتى الفكر اليوناني العقلاني سلك هذه الثنائية بتشرُّبه الفكر المسيحي مع الوقت , في حين نحت فلسفات أخرى إلى اعتبار الأرواح آلهة ذات أصل سماوي تنزّلت في أجساد قابلة للتلف وتناسخت في أدوار عدّة تتعرّض فيها للإغواء , وفي أجساد قابلة للخطايا , لتتحرر بعد ذلك بموت الأجساد.
قال المتنبي: (( إذا غامرت في شرفٍ مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقيرٍ كطعم الموت في أمرٍ عظيم )) .
(( تعددت الأسباب والموت واحد , فاختر لنفسك مايحلو لك )) , بهذا الهوس , يتناقل الإعلام حكايا عن الحياة وأخرى عن الموت , تشبه رقص الريح الثائر مع السكون , إحداها عن سيدة يابانية تجاوز عمرها الثمانين اختارت أن ترقص على منصة المسرح قبل أن تلقي خطاباً ألهمت فيه الحضور, وروت خلاله كيف أطلقت بنفسها تطبيقاً إلكترونياً للهواتف الذكية يهتم بمهارات التواصل بين كبار السن , تلك السيدة بدأت رحلتها الاستكشافية في عالم التكنولوجيا بعد تقاعدها في عمر الستين , حين امتلكت أول جهاز كمبيوتر وامتلكت به كما تقول عالماً جديداً , جعلها تحلق فوق تلة أحلامها , تلك السيدة التي لا تعرف من الوقت سوى البداية ومن الحياة سوى الوجود , استطاعت أن تفك شيفرة الخلود , وتهزم أرقام العمر بنجاحها.
يقول الجواهري : (( ذئبٌ ترصدني وفوق نيوبه دم إخوتي وأقاربي وصحابي )) .
كثيرون تستوقفهم الأرقام لا العبر, تشي لهم الحياة بقلة حيلتها وقصر عمرها , فيتوهون في فضاء العمر, ويمضون خلف خيط رفيع من سراب يائس , هم المحرومون من الحياة رغم حياتهم , أما الناجون من شركها هم الذين يقودون الوجود عند انعطاف دقات الزمن , حتى الموت بإمكانهم إعادة تشكيله كلوحة سريالية استثنائية الأبعاد , فالحياة ثقافة فاتنا الكثير من عمق فلسفتها , وقد اعتدنا أن نتلقى السائد والدارج منها لا أكثر, والموت غموض يرمي ظله علينا متى شاء دون إنذار مسبق فيذعرنا ذكره , وقلة فقط يسعون إليه كتجربة لم تعلمهم إياها الحياة , والأكثر حيرة أولئك الذين يعيشون حياتهم كأنها متسع للموت , لكن النصر لا يعني الحياة , فبعض النصر موت , (( لست سعيداً )) , (( أريد أن أموت )) , (( آسف لأنني وصلت إلى هذا العمر )) , هكذا برر العالم الأسترالي يفيد غودال قراره بالموت , رغم كل إنجازاته العلمية , لأن حياته لم تعد كالسابق وأضحى الضجر رفيق سنواته الأربعة بعد المئة , مورثاً وطنه لوماً كبيراً لأنه لم يجعله يموت على أرضه فالقوانين في بلاده لا تجيز القتل الرحيم , مما اضطره للسفر إلى سويسرا , طالباً الموت بحقنة قاتلة على أنغام موسيقى السيمفونية التاسعة لبيتهوفن.
يقول السياب : (( فالموت عالم غريب يفتن الصغار وبابه الخفي كان فيك يا بويب )) .
يحيِّر الموتُ الأحياءَ ويذرهم بلا إجابة تروي الغليل أمام مروحة واسعة من الأسئلة عن الموت : موت الحامل وهي تضع مولودها , وموت المحارب في ساحة الوغى , وموت المتعرض لحادث عرضي , وموت مَن بلغ من العمر عِتِيًّا فتعطَّلت وظائفه الحيوية , وموت المنتحِر بقرار ذاتي , وغيرها كثير من الأسباب , فالموت في أيٍّ من حالاتٍ لا تقبل العدَّ لا يُقاربه البشر معنويًّا بالطريقة عينها , وكذلك الأمر في التعامل ماديًّا مع الجثمان , سواء بالدفن أو الحرق أو التحنيط أو جعله طُعمةً لحيوان جارح أو طير كاسر, وكذا بالنسبة إلى مصير المتبقّي من العظام أو الأشلاء أو الرماد , وإلى فترة الحِداد , ومدة الفصل بين الحيّ والميّت , ومصير المتوفّين بعد موتهم , وأشكال وجودهم في العالم السماوي , وينفر معظم الناس من الموت , لِما يُحدثه من اضطرابٍ نفسي وهواجسَ مقلقة وانطباعات سلبية , إذ هو (( المجهول)) المتجاوِزُ كلَّ مقاربة مفاهيمية , وكلَّ محاولة لاستيعابه عقلًا وواقعًا , وقد عاين الأحياء أشخاصًا يموتون , واقتحم الموت بيوتهم مختطِفًا أحد أفراد أُسَرهم فأَمَرَّهم بتجارب قاسية ولَّدت في بعضهم مشاعر حادّة تقارب الشعور بالرهبة , خشية الانفصال عن حبيب والحرمان من عزيز, وغير هذا .
يقول محمود درويش : (( ويا موت انتظر يا موت / حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحتي / لتكون صيادا شريفا لا يصيد الظبي قرب النبع / ولتكن العلاقة بيننا ودية وصريحة / لم يمت أحد تماما / تلك أرواح تبدل شكلها ومقامها )) .
صباح الزهيري .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟