صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8342 - 2025 / 5 / 14 - 09:04
المحور:
الادب والفن
مقامة مطعم الجامعة :
حكاية طريفة لمرحلة من مراحل حياة البصراويين فيصل السامر وصلاح خالص , بعد فصلهما من وظيفتهما , وعودتهما من معسكر السعدية ابان الحكم الملكي للعراق حيث كانت لوحة تقول (( مطعم كباب الجامعة لصاحبيه : الدكتور صلاح خالص والدكتور فيصل السامر)) , تعتبرأبلغ من أي منشور سري يومئذ , لا في أيامنا هذه , إذ كيف يكون أستاذان يحملان لقب دكتوراة صاحبي مطعم كباب ؟ كانا يحتفظان بهيئتهما الوقورة والمهندمة كأستاذين ولا يلبسان طاقية عمال المطاعم الطويلة , ويعتنيان بشعر الرأس باستخدام زيوت هندية تجعله لامعًا وأملسًا , ويحرصان على لبس المريولة , دكتور صلاح على الدخل ,ودكتور فيصل يوزع الطلبات على الزبائن , واختارا شيفًا يعمل الكباب بأنظف وأفضل صورة , دكتور فيصل يحمل الكباب ويتلاعب بالمواعين , ويصيح بصوته الجنوبي الرخيم : (( دكتور صلاح عيني نفر كباب وياه طماطه شوي وداريها لخوك الأستاذ )) , يجاوبه دكتور صلاح خالص من مكانه : (( يتدلل الأستاذ خويه دكتور فيصل من بطن عيني )) , وهكذا جرت الأمور, وكان من نتيجة ذلك أنْ تجمهر خلق كثير على مطعم كباب الجامعة لصاحبيه الدكتور صلاح خالص والدكتور فيصل السامر , وانتشرت الحكاية انتشار النار بالهشيم , دكاترة , أساتذة بجامعة بغداد يشتغلون كببچيه , ليش ؟ لأنّ رئيس الوزراء نوري سعيد فاصلهم من الوظيفة ؟ وأدرك شرطة القلم السياسي هذه المفارقة , فبلغ ما كتبوه عنها مسامع نوري السعيد , فما مرت أيام حتى وقف شرطي يستدعي صاحبا المطعم إلى مقابلة الباشا (يعني نوري السعيد) الذي استقبلهما بأن نهض من على مكتبه إلى اريكة يستقبل فيها الضيوف , فبادرهما : ((شنو معنى هذا المطعم؟ )) , فكانت الأجابة : (( باشا نريد نعيش وإلا نموت من الجوع )) , (( يعني ما لكيتو له اسم غير مطعم الجامعة ؟ )) ,فأجاباه متباهيان : (( اشبيها باشا , إحنا أساتذة بالجامعة ونحب شغلنا )) , (( زين , كان لازم تكتبون لصاحبيه الدكتور صلاح خالص والدكتور فيصل السامر؟ )) , (( باشا هذا لقب أنا أخذته بجهدي من فرنسا , وفيصل أخذه من القاهرة )) , واتصل نوري السعيد بوزير المعارف يأمره بإرجاع الجليلين صلاح والسامر إلى وظيفتهما في الجامعة , رجعا للمطعم وكتبا على اللافتة (( مغلق لعدم التفرغ , معروض للإيجار أسبوعيًا )) ,ولما قال دكتور فيصل السامر لصاحبه: (( ليش ما نغلقه نهائيًا ؟ )) , رد عليه دكتور صلاح خالص : (( لا يابه , الميت ميتي واعرف شلون مشعول صفحه , اسبوع أسبوعين وهمين يرد يفصلنا )) .
فيصل السامر مؤرخ كاتب وأديب ومؤلف ووزير سابق , من عشيرة (السامر) الساكنة في المدَيْنَة إحدى نواحي البصرة , تولدعام 1922 , وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة فيها , وكان من المتفوقين في امتحان (البكالوريا) إذ التحق في كلية الملك فيصل ببغداد , وكانت آنذاك (مدرسة ثانوية خاصة للمتفوقين والموهوبين) , وبعد تخرجه أوفد إلى مصر فانتسب إلى كلية الآداب بجامعة القاهرة على البكالوريوس عام 1947 , والماجستير عام 1950 , وكانت رسالته بعنوان ((حركة الزنج )) , وهو الكتاب الذي خلده , وطبع عدة مرات في القاهرة زبيروت وبغداد , وفي سنة 1953 أكمل الدكتوراه من الجامعة ذاتها وكانت رسالته بعنوان : ((الدولة الحمدانية في الموصل وحلب)) , كان الدكتور فيصل مؤرخاً , وأستاذاً جامعياً , وسياسيا يسارياً وتقدمياً في تفكيره وتوجهه , وباحثاً , له حضور متميز على الساحة الثقافية العراقية المعاصرة , كما كان لإسهاماته في مجال منهج البحث في الدرس والفكر التأريخيين في العراق منذ الخمسينات من القرن العشرين أثر كبير في رفعة شأن المدرسة التأريخية العراقية المعاصرة , في سنة 1959 اختاره عبد الكريم قاسم , وزيراً للإرشاد (الإعلام) , وخلال الحقبة الوزارية أسس وكالة الأنباء العراقية , والفرقة السمفونية , ودار الأوبرا , وفي عام 1961 استقال الدكتور فيصل السامر من منصبه الوزاري وقبل منصب سفير العراق في إندونيسيا , وفي تموز عام 1968 عاد إلى العراق والتحق بأعضاء هيئة التدريس بكلية التربية , ثم أعيد إلى قسم التأريخ بكلية الآداب ليعمل أستاذاً , وقد انتخبه زملائه رئيساً للقسم , وبقي كذلك سنوات , ثم تفرغ للبحث العلمي والتدريسي والإشراف على طلبة الدراسات العليا , وقد توفي صباح يوم 14 كانون الأول سنة 1982 في بريطانيا .
الدكتور صلاح خالص من أساتذة جامعة بغداد , ولد في البصرة في سنة 1925م , وتوفي في بغداد سنة 1986م , وبين سنتي الميلاد والوفاة حياة حافلة خصيبة , دار فُلكها في مدارات السياسة والصحافة والجامعة , وكان في كلّ مدار وثيق النفس , راسخ القدم , جهير الرأي , درس الأدب العربي في باريس , وكان قد ذهب إليها في أُخريات الأربعينيات , متضحةً معالم طريقه , وما بقي إلاّ الاستزادة من المنهج والأفكار, وقد استزاد وامتدت آفاق القراءة والتأمل الى اليونان وفلاسفتهم الكبار, وكان يقرأهم وبيده مصباح من عصره يُنير له دجى الأعصر الخالية , ويهبط بالقراءة والتأمل من ذلك العصر البعيد إلى ما يأتي بعده عصراً عصراً حتى يصل إلى ما هو راهن , فتكتمل له رؤية في التفسير لا تلبث أن تصبح أداة نافذة من أجل تكامل المعرفة , قرأ الوقائع والأفكار بضوء مصباح كان بعض زيته ما كان يتمخض به البلد ويتجه إليه من تحرر في الفكر, واستقلال في السياسة , وقد بقي ذلك الزيت يَمدّ المصباح بالضياء ويدفع عنه الذبول , كانت حوادثُ البلد في تقلباتها المعين الذي يرجع اليه ويطابق بين الأفكار وبينه سعياً نحو خيرٍ يفيض على الأرض وناسها , نال الدكتوراه في الأدب الأندلسي في سنة 1952م , وعاد إلى العراق والتحق بكلية الآداب يدرّس الأدب الأندلسي ومواد أخرى من الأدب والنقد , ولم يقصر جُهده على الدرس الجامعي , على ما له فيه من مكانة مرموقة , بل اتجه إلى ساحة الأدب والفكر الواسعة , فأصدر مع نخبةٍ ممن يلتقي بهم فكراً وموقفاً , في سنة 1954م , مجلة ((الثقافة الجديدة)) التي كان من رسالتها الدعوة إلى الجديد في الفكر والأدب , وقد رعتْ المجلة ريادة الشعر الحديث فوجد البياتي على صفحاتها متسعاً كما وجد من هيئة تحريرها سنداً وعوناً , ولما قامت الجمهورية في سنة 1958م كان ممن أسسوا ((اتحاد الأدباء)) الذي تولى رئاسته محمد مهدي الجواهري , وكان في هيئته الإدارية علي جواد الطاهر, ومهدي المخزومي , وصلاح خالص , وحسين مردان , وآخرون من صفوة الأدب والفكر يومئذٍ , وكان من عمل ((اتحاد الأدباء)) أن أصدر مجلة أدبية هي ((الأديب العراقي)) وقد تولى صلاح خالص جانباً كبيراً من شأنها فضلاً عما كان ينشرهُ فيها من مقالات في الأدب والنقد , وزاول الإدارة إذ أُنيطتْ به ((دائرةُ البعثات)) فأصبح مديراً عاماً لها , ثم عاد صلاح خالص فإلتحق بكلية الآداب يدرّس الأدب الأندلسي ومواد أخرى من الأدب والنقد , واتصل بميدان الصحافة وفي عزمه أن يصدر مجلة شهرية يتولّى مسؤوليتها ورئاسة تحريرها فأصدرها في سنة 1970م , وجعل عنوانها ((الثقافة)) وشعارها: ((مجلة الفكر العلمي التقدمي)) ووصفها بأنها ((مجلة شهرية ثقافية عامة)) , وكانت تصدر أحد عشر عدداً في السنة وربما ازدوجت بعض أعدادها لأمر يتصل بالإنفاق على طبعها وتوزيعها , أرادها أن تكون مستقلة في محيط كانت صحافته كلها مرتبطة بالدولة تمويلاً وتوجيهاً , ولم يكن الأمر سهلاً , ولا الطريق معبّدةً إلى صحافة مستقلة يومئذٍ , فلقي في سبيلها ما لقي من عنتٍ وأذى , حتى قال محبوه ليتهُ يُغلقها ويتخلى عنها إذ رأوا وجه الخسارة أقوى من وجه الربح , ولكنهُ كان عجيباً في صبره وثبات نفسه وتعلقهِ بالأمل وكأنَّ اليأس لا يدركهُ , فلقد تمرّس بالعمل الصادق المثمر منذ نشأتهِ الأولى , ورأى الحياة فيه , وليس في القعود والركون إلى السلامة , كان إذا رأى بارقة أمل فرح بها ومدّ إليها جسرا .
صباح الزهيري .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟