صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8340 - 2025 / 5 / 12 - 11:25
المحور:
الادب والفن
نستذكر في عالمنا العربي أصواتًا طبعت الذاكرة وكلمات نقشت في الوجدان , وعلى رأسها صوت سيدة الغناء فيروز, ولكن , حتى هذه القامة الفنية لم تسلم من مقص الرقابة , حيث مُنعت أغنيتها ((مشوار)) في فترة من الفترات بسبب بعض الكلمات التي وُصفت بأنها نابية أو غير لائقة , هذه الحادثة , التي قد تبدو اليوم غريبة , تفتح نافذة على معايير مختلفة للذوق العام كانت سائدة آنذاك , وتدعونا للتفكير في رحلة الكلمات في الأغنية العربية وصولًا إلى ما نسمعه اليوم , قيل إن سبب منعها يعود إلى بعض الأوصاف التي استخدمها الشاعر للتعبير عن حالة الشوق والحنين , والتي اعتُبرت جريئة أو تجاوزت حدود المألوف في ذلك الوقت , على سبيل المثال , عبارات مثل (( يا حبيبي الغايب , جيتلك ع دربي تعبان )) , وما تحمله من حميمية وصدق في التعبير عن المشاعر, ربما وُوجهت بتحفظ من قبل بعض الأوساط.
سعيد عقل شيطان شعر , تشرح أغنيته (( مشوار )) عن معاناة المراهقين العشّاق بالقريه , تبادل الأخبار , اختراعها , غزلها وتبهيرها وتكبيرها , وتأتي الصّبيّه لتقول : ((مين قال حاكيتو وحاكاني , أنا كنت واقفه غصب عنّي ونفّض ماء المطر عن فستاني , وأصلاً عادي كنّا صغار)) , (( وبترجع الضّيعة لتحكي إنّو رمالها حبيبها الافتراضي الورد على تختها , فكان تبريرها إنّو شبابيك بيتهُن عاليه عن الشّارع , ولو رمى ورد فكيف حيعرف سريرها من سرير أختها اللي معها بنفس الغرفه ؟ )) , وما بتتوقّف أخبار الضّيعة عند هالحدّ , بيتّهموها إنّو ضمّها مرّتين وشدّ عليها , لتقول: شوفوا الكذب لوين , طيّب ليش مرّتين ؟ مرّة وحده كافيه , ليش المبالغة ؟ وبيصير الخيال واقع , لمّا تبتدي تحبّو عن جدّ من كتر الأقاويل , وبتصير تحلم فيه ليليّه , وتتساءل : ان صحّ الحلم شو صار ؟ عملتوا من مشوار واحد أخبار وأسرار, والعمر أصلاً مشوار.
هذه الواقعة تدفعنا للتساؤل عن مفهوم (( النابية )) , أو (( غير اللائق )) في سياق الفن , هل هي معايير ثابتة أم أنها تتغير بمرور الزمن وتبدل المجتمعات ؟ وهل يجب أن يكون الفن دائمًا ملتزمًا بقوالب تقليدية أم أن من حقه التعبير عن المشاعر الإنسانية بكل تجلياتها , حتى تلك التي قد تبدو للبعض صادمة أو غير مألوفة ؟ وماذا عن انحدار الكلمات في أغاني اليوم ؟ فعندما نقارن حساسية الماضي تجاه بعض الكلمات في أغنية (( مشوار)) بما نسمعه اليوم في العديد من الأغاني الرائجة , نجد مفارقة واضحة , فقد غزت الساحة الفنية كلمات سطحية , بل وبعضها يحمل إسفافًا لغويًا وتكرارًا مملًا للمعاني , وأحيانًا ترويجًا لقيم سلبية , فأين ذهبت تلك اللغة الشعرية الراقية التي كانت تزين الأغاني؟ أين الصور البلاغية العميقة والمعاني الإنسانية النبيلة التي كنا نتذوقها في أعمال فنانين كبار؟ يبدو أن هناك تحولًا كبيرًا قد طرأ على صناعة الغناء والموسيقى , حيث أصبحت الأولوية في كثير من الأحيان للإيقاع الراقص والألحان السريعة على حساب جودة الكلمات وعمق المعنى .
نواجه في هذا الزمن أنواعا عديدة جديدة من الموسيقى مع كلمات موحية ترسّخ لعادات وإيحاءات غير أخلاقية في كثير منها , ويصف البعض المرحلة بزمن (( الانحدار الفني والأخلاقي )) , إن تراجع مستوى الكلمات في الأغاني ليس مجرد قضية فنية , بل له تداعيات ثقافية واجتماعية , فالأغاني تشكل جزءًا من الذاكرة الجمعية وتساهم في تشكيل وعي الأجيال القادمة , عندما تكون الكلمات سطحية أو مبتذلة , فإنها قد تساهم في تسطيح الذوق العام وتكريس قيم سلبية , ولو بحثنا عن أسباب التردي وتداعياته , لوجدنا عدة عوامل قد تكون ساهمت في هذا التردي في مستوى الكلمات , من بينها , التوجه التجاري, فقد أصبحت صناعة الموسيقى تعتمد بشكل كبير على تحقيق أكبر قدر من الأرباح السريعة , مما يدفع بعض الفنانين والمنتجين إلى تقديم أعمال سريعة الاستهلاك , لا تهتم بالعمق الفني أو الرسالة الهادفة , وكذلك تأثير وسائل التواصل الاجتماعي حيث ساهم الانتشار الواسع لمنصات التواصل في ظهور أنماط لغوية جديدة قد لا تلتزم بقواعد اللغة أو الذوق الرفيع , وقد تجد طريقها إلى الأغاني بهدف تحقيق الانتشار السريع , أضافة الى غياب النقد الفني الجاد, وتراجع دور النقاد الفنيين القادرين على تقييم الأعمال بموضوعية وتوجيه الجمهور نحو الأفضل , مما يفسح المجال للأعمال الرديئة بالانتشار دون رقيب , وقد يرى البعض أن الجمهور نفسه قد تغيرت اهتماماته وأصبح يفضل الأغاني الخفيفة والترفيهية على حساب الأغاني ذات المضمون العميق , وهذا بدوره يشجع الفنانين على تقديم هذا النوع من الأعمال.
إن قصة منع أغنية ((مشوار)) لفيروز, التي بدت في حينها مثيرة للجدل بسبب بعض الكلمات , تبدو اليوم وكأنها تنتمي إلى زمن آخر, زمن كانت فيه معايير اللغة والذوق العام أكثر صرامة في بعض الجوانب , ولكن , هذا لا يعني بالضرورة أننا نسير في الاتجاه الصحيح اليوم , فبينما تجاوزنا ربما بعض القيود الشكلية , فإننا نواجه تحديًا آخر يتمثل في الحفاظ على جودة الكلمات وعمق المعاني في الأغنية العربية , إن العودة إلى تقدير الكلمة الراقية واللحن الأصيل , وتشجيع الفنانين الذين يقدمون أعمالًا ذات قيمة فنية ومعنوية , هو مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الفنانين , والمنتجين, ووسائل الإعلام , والأهم من ذلك , على عاتق الجمهور نفسه الذي يجب أن يكون واعيًا بما يسمع ويسعى إلى الارتقاء بذوقه الفني , ففي نهاية المطاف , الأغاني هي مرآة تعكس واقع مجتمعاتنا وتطلعاتها , فماذا نريد أن تعكس أغانينا اليوم؟
قد يمر خبر منع بث أغنية فنان ما على مسامعنا مرور الكرام , لكن ماذا لو كان المنع يطال أغنية للسيدة فيروز, وأن سبب المنع يعود إلى (( منافاتها القيم والأخلاق؟ )) , شكَّل أول تعاون فني باللغة المحكية جمع السيدة فيروز بالشاعر اللبناني سعيد عقل , مشكلة كبيرة تجسدت في منع الإذاعة اللبنانية بث أغنية (( مشوار)) الشهيرة , التي صدرت في الأشهر الأولى من سنة 1960 , بسبب احتوائها على كلمات نابية بحسب بيان الإذاعة , وتخوَّفت مجلة الصياد في عددها الصادر بشهر شباط 1960من منع الأغينة , لتؤكد في عددها التالي تحول مخاوفها إلى واقع , حيث كتبت : (( منعت الإذاعة اللبنانية تقديم أغنية فيروز الجديدة ((مشوار)) , التي كتب كلماتها الشاعر سعيد عقل ولحنها الأخوان رحباني )) , وبررت الإذاعة اللبنانية سبب منع بث الأغنية في بيان صدر عقب إطلاقها بأنه يعود إلى وجود كلمات لا تتفق ومخطط الإذاعة العام الذي يحرِّم تقديم الكلمات النابية , أو التي يشتّم منها أنها تسيء إلى التوجيه والأخلاق , وتقول أغنية مشوار في مطلعها : (( مين قال حاكيتو وحاكاني ع درب مدرستي , كانت عم تشتّي ولولا وقفت رنّخت فستاني , وشو هم كنا صغار, ومشوار رافقتو أنا مشوار )) , وسارع الأخوين الرحباني بعد منع الإذاعة اللبنانية بث الأغينة إلى إصدارها على أسطوانة من الحجم الصغير بعنوان (( الهوى والشباب )) , احتوت في وجهها الأول على أغنية (( مشوار)) , وأغنية (( بحبك ما بعرف )) , كلمات سعيد عقل وألحانهما أيضاً على الوجه الآخر, وكُتب على الغلاف الخارجي للأسطوانة عبارة : (( مُسَجَّلَة من مشاكل الشباب نفسها )) , في إشارة من الأخوين رحباني إلى المعنى المقصود من الأغنية الممنوعة , وأرفق الغلاف بنص توضيحي أكثر تفصيلاً للأغنية، كتب عليه (( تزداد مشاكل الشباب المراهقين وتتعقّد في محيط القرية الضيّق , حيث يعرف أهلها بعضهم وتتداول الألسنة الأخبار وتضيف إليها وتحورها )) , وأضاف النص أن (( المراهقون في القرية يعانون من جور المراقبة , فكل حركة يتحركونها حتى لو كانت بريئة تجد تأويلات عديدة بعيدة عن الحقيقة , كهذه القصة التي ترويها فيروز في أغنية مشوار )) .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟