صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 09:51
المحور:
الادب والفن
صعد فخري كريم منصة أحد أفخم المهرجانات الإعلامية في الخليج , ليتسلم جائزة (( شخصية العام الإعلامية )) , مشهد سياسي وإعلامي شديد الرمزية , وقد علق أحدهم بعبارة : (( عندما يدوراليسار الى اليمين )) , فذلك البريميري المشهود له , والذي ارتبط اسمه سابقًا باليسار العراقي , وقف مبتسمًا وهو يتسلّم درعًا من أحد أمراء الخليج , في لحظة تلخص كل تناقضات المرحلة : أن تُكافَأ على (( حرية التعبير)) من أنظمة تمنع شعوبها من مجرد التنفس , والحدث بحد ذاته يكشف ما هو أعمق من مجرد تكريم شكلي , إنه يعرّي مرحلة كاملة من انهيار الضمير المهني والسياسي لبعض المثقفين العرب , الذين انتقلوا من موقع المقاومة إلى موقع التبرير, ومن النقد الجذري إلى خطاب العلاقات العامة.
لنكن واضحين , في ممالك الصمت لا حرية التعبير, هذه الجائزة تُمنح من دول لا تُجرى فيها انتخابات حقيقية , ولا يُسمح فيها بتعدد الأحزاب , ولا يعرف فيها القضاء معنى الاستقلال , دول لا تسمح بوجود نقابات مستقلة , وتلاحق كل رأي يخرج عن النسق المسموح به , في هذه البلدان , يُعتقل مغرِّد بتهمة (( إثارة الرأي العام )) , ويُسجن كاتب لأنه انتقد الحرب , وتُحجب آلاف المواقع لأنها لا تتماشى مع (( قيم الدولة )) , ناهيك عن الرقابة الفظة على الكتب , والمهرجانات , والمحتوى الأكاديمي , وحتى منابر الجمعة , ولا تزال عشرات الشخصيات الإصلاحية رهن الاعتقال لمجرد مطالبتهم بإصلاحات دستورية سلمية , ويتم التجسس على المعارضين والناشطين عبر برامج مراقبة متقدمة, واختفت الأحزاب تمامًا تحت مسمى (( حل الجمعيات )) بقرارات قضائية مسيّسة , ومع ذلك , تُنظم (( قمم إعلامية )) لتكريم الحرية , فأي عبث سياسي هذا؟
ان جائزة ممالك الخليج هي آخر ورقة توت تُغطّي ما تبقى من فخري كريم , ومن لفّ حوله من مدّعي اليسار, فاليسار الحقيقي لا يقبل جوائز من أنظمة قمعية , ولا يضع اسمه فوق دروع تمجّد السلطة , ولا يُشيد بإصلاحات هي في حقيقتها مجرد عمليات تجميل لوجه الاستبداد , وليس السؤال هنا : لماذا قبِل فخري كريم بالجائزة؟ ولماذا يتحول إلى واجهة ناعمة لأنظمة الخليج عبر بوابة الجوائز والفعاليات الممولة , في مشهد لا يمكن فصله عن الدور الذي تلعبه النخب الثقافية في تزييف الواقع وتجميل القبح السلطوي , بل : هل بقي ما يمنعه؟ فحين تتحول الثقافة إلى مشروع تجاري , واليسار إلى بطاقة عبور للنظام , لا يصبح التكريم من الجلاد مفاجأة , بل نتيجة منطقية , ولا تكمن خطورة هذه الحالة في هذا الشخص الذي تواطأ مع ألأحتلال الأميركي لبلده , بل في ما يمثله : نموذج المثقف الذي يرتدي قناع الاستقلالية بينما يتلقى تمويله وتكريمه من أعتى النظم القمعية , إنه التحول من (( المثقف العضوي )) الذي تحدّث عنه غرامشي , إلى ((المثقف المقاول )) الذي يبيع موقفه كخدمة تُقدَّم للمموّل .
ما يجري من احتفاء بشخصيات كانت يومًا تنتمي لليسار يضعنا أمام سؤال مؤلم : هل بقي من اليسار إلا الشعار؟ هل بات يكفي أن تكون يساريًا في السيرة الذاتية , حتى وإن كنت اليوم تبارك الاستبداد وتعيش عليه؟ ما الجدوى من يسار لا يرى التناقض في تلقي جوائز من ممالك تُحاكم من ينتمي لحزب أو تيار معارض؟ أنهم يعرفون أن الجائزة تمولها أجهزة أمنية , وأن منصات التكريم تُدار بعناية لتلميع صورة النظام , لكنهم يتعاملون معها كفرصة لـتبادل الصور والظهور في المشهد الثقافي العربي , وكلما ارتفعت قيمة الدرع , انخفض صوت الضمير , فيختارون التغاضي , والتهاني هنا لا تأتي من فراغ , إنها جزء من شبكة أوسع من التواطؤ الصامت , يساريون في الشكل , لكنهم أدمنوا دور (( المثقف المحترف )) , الذي لا يغضب من القمع , إنها ليست أزمة فرد , بل مشهد كامل من ثقافة التواطؤ , حيث يُكتب التاريخ بحبر مدفوع الثمن , وتُصفّق النخب لبعضها فوق أطلال الكلمة , ومن شعار المقاومة إلى درع الطاعة .
يظل الجدل الدائر حول تكريم فخري كريم يعكس شرخًا عميقًا في الوعي العربي , خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق , إنه يطرح تساؤلات حول معايير التكريم والتقدير, وإلى أي مدى يمكن فصل المسيرة الفكرية والثقافية عن المواقف السياسية , خاصة تلك التي تُعتبر جوهرية في تشكيل مصير الأمة , إن هذا التكريم , بغض النظر عن النوايا المعلنة , قد أعاد فتح ملفات حساسة تتعلق بالماضي القريب للعراق والمنطقة , وأعاد تسليط الضوء على ضرورة النقاش المستمر حول تبعات القرارات الكبرى وتأثيرها على الشعوب , ويرى كثيرون , خاصة من المعارضين للغزو والاحتلال , أن فخري كريم كان من الأصوات التي أيدت بقوة الاحتلال الأمريكي للعراق , تُستند هذه الرؤية إلى تحليلات وكتابات وبرقيات تأييد ظهرت له في تلك الفترة , والتي اعتبرها البعض بمثابة تبرير للوجود الأجنبي أو تهيئة للقبول به , من هذا المنطلق , يأتي تكريمه كـ(( شخصية العام )) في أبوظبي ليُفسر على أنه مكافأة غير مباشرة على هذا التأييد , أو على الأقل تجاهل لدور البعض في شرعنة الاحتلال ونتائجه الكارثية على العراق , إن اختياره كـ(( شخصية العام )) يبعث برسالة مزدوجة , من جهة , يُنظر إليه على أنه تجاهل لمعاناة العراقيين جراء الاحتلال وما أعقبه من فوضى وصراعات وتدخلات إقليمية , ومن جهة أخرى , يُفهم على أنه نوع من (( المكافأة )) لأولئك الذين توافقت رؤاهم أو مواقفهم مع مشاريع معينة في المنطقة , حتى لو كانت هذه المشاريع قد ارتبطت بالاحتلال الأجنبي.
كتب سعدي يوسف في 12.12.2012 : (( ان فخري كريم هو المؤهّل الأوّل للعار, فقد كان جاسوساً محترفاً لكل مخابرات الدول الإشتراكية , وكان مستشار القصر في سوريّا , وكان سارق أموال الحزب الشيوعيّ العراقيّ , وكان سارق المساعدات الأوربية , وهو الأمّيّ الذي لم يحصلْ على الثانويّة , هو القوميسار الثقافي للاحتلال , وبمقدوره أن يفعل ما يشاء في العراق المحتلّ)) , و كتب الراحل المناضل حسين سلطان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي قصيدته المشهورة (( ماشفت هجّي فرطنة )) :
(( من ﭽان عمرك ناعـــم معروف عنــــــك معروف
ﭽانت شـــــغلتك بالغدر عدما كبرت صرّت تحوف
ﭽذاب ســـــافل نصاب خاين وكل عين تشـــــوف
إصبر ولك وتــــــهدّى وهسا تشـــــوف المرعنة
ماشفنا هجّي فرطنــــة يلعب بها ها الزنﮕنـــــه
من كبّرك من ســـوّاك بالحزب صرت مافيـــــه
مو خرّبت كل القيـــم؟ وسلبت منها العافيــــــــة
تخسى يا صنو الزانية ويخسى جميع الخونـــــة
ماشفت هجّي فرطنـة يلعب بها ها الزنكَنـــــــة )) .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟