أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الساكن و المتحرك .














المزيد.....

مقامة الساكن و المتحرك .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8368 - 2025 / 6 / 9 - 15:44
المحور: الادب والفن
    


مقامة الساكن والمتحرك :

يصف (( الجبرتى )) فى كتابه ((عجائب الآثار)) الأوضاع العامة قائلًا : (( كان الوقت فى هدوء وسكون , والأحكام فى الجملة مُرضية , والأسعار رخيّة , وفى الناس بقية , وستائر الحياء عليهم مرخية )) , ثم يذكر بيت شعر عجيب يقول: (( ما الدهر فى حال السكون بساكن.. ولكنه مستجمع لوثوب )) , ويبدو أن الجبرتى أراد أن يرمى بهذا الاستدعاء الشعرى للتقلبات العاتية التى سوف تشهدها مصر, بعد فترة الاستقرار القصيرة التى قضتها فى ظل حكم (( محمد بك )) , والحقيقة هذه أبيات عميقة الأثر في نفسي , تملأ جوانحي بخواطر فلسفية يُمكن قنصها في أحرف , وتملؤها زوابع يصعب التعبير عنها بوضوح : (( نحاذر أحداث الليالي وقلما * خلا من توقيهن قلب أريبِ , ونرتاب بالأيام عند سكونها * وما ارتاب بالأيام غير أريبِ , وما الدهر في حال السكون بساكن * ولكنه مستجمعٌ لوثوب )) , بما يعني أن الدنيا أو الزمن لا يستقر تمامًا , بل يتجمع لتقلبات أو حركات مفاجئة , لقد تعوّد الجبرتي في تاريخه أن يعلق بهذه الأبيات على السنين التي يهدأ الشارع فيها , برغم سوء الأحوال وإمعان المماليك في الظلم والملعنة .

يعبر بيت الجبرتي عن أن الزمن ليس جامدًا أو ساكنًا أبدًا , بل هو دائم التغير والتحول , ويحمل في طياته استعدادًا للقفزات والتغيرات الكبيرة, إنه يصف حركة الدهر المستمرة , حتى ان كان في ظاهره السكون , فهو يخبئ بين طياته الاستعداد للوثوب والتغير, ومثله قول أبو العتاهية , الذي يعبر عن تقلب الدهر وتغير الأحوال وعدم ثباتها : (( إنما الدنيا فناءٌ * ليس للدنيا ثبوتُ , فتبارى في المعالي * فكفى بالموت قوتُ )) , وللزبيري (معاصر) , قوله (( دوام الحال من المحالِ * ومن لم يمت لابد أن يتقلبَ )) , فهذا الشطر الثاني تحديدًا (( ومن لم يمت لابد أن يتقلب )) يعبر عن فكرة جوهرية , وهي أن التغير والتقلب سنة كونية لا مفر منها , حتى وإن لم يأت الموت , فالأحوال تتبدل , وهو ما يتفق مع فكرة أن الدهر ليس ساكنًا.

فعلًا , إنها لأبيات عميقة الأثر تحمل في طياتها حكمة بالغة تتجاوز الأزمنة والأمكنة, هذه الخواطر الفلسفية التي قنصتها من أبيات الجبرتي لا تقف عند حدود مصر في عصره , بل تمتد لتلامس واقعنا المعاصر في العراق , وتلقي الضوء على طبيعة الأحوال فيه , يظل العراق , هذا البلد العريق بتاريخه وحضارته , محط أنظار العالم ومادة دسمة للتحليل والنقاش , فما بين صخب السياسة وتحديات الاقتصاد , يبقى الواقع العراقي أشبه ببيت الجبرتي الشهير : (( وما الدهر في حال السكون بساكن , ولكنه مستجمع لوثوب )) , هذه المقولة تختصر الكثير من ملامح المشهد العراقي الراهن , حيث يبدو السكون الظاهري أحيانًا وكأنه يخفي تحركات عميقة وتغيرات جذرية , وفي سكونٌ يسبق التحولات , قد يرى البعض في العراق اليوم حالة من الجمود أو الاستقرار الهش , فالصراعات السياسية المستمرة , والتحديات الأمنية المتفرقة , والبطء في تحقيق الإصلاحات الاقتصادية الكبرى , كلها عوامل قد توحي بأن الزمن قد توقف في بعض جوانب الحياة العراقية , الشارع العراقي , الذي شهد موجات احتجاجات واسعة في السنوات الماضية , قد يبدو هادئًا نسبيًا في الوقت الراهن , لكن هذا الهدوء لا يعني غياب المطالب أو تراجع الآمال , إنه أشبه بـ(( سكون )) يوحي بالترقب , حيث تظل القضايا الجوهرية عالقة , والشعوربالإحباطحاضرًا , وإن كان تحت السطح .

تستجمع الوثبةٌ قواها , فالنظرة المتعمقة تكشف أن هذا السكون ليس مطلقًا , بل هو أشبه بفترة (( استجماع لوثوب )) , فالمجتمع العراقي يتغير باستمرار , وتتراكم فيه طاقات كامنة تبحث عن منفذ , هناك حراك شبابي واعٍ يسعى للتغيير بعيدًا عن الأطر التقليدية , وهناك قطاعات واسعة من المثقفين والأكاديميين ورجال الأعمال يعملون بصمت لبناء أسس لمستقبل أفضل , كما أن الوعي المجتمعي يتزايد بشأن أهمية الحكم الرشيد ومكافحة الفساد , وتبرز أصوات جديدة تطالب بالمساءلة والإصلاح ,وعلى الصعيد الاقتصادي , ورغم التحديات , هناك جهود حثيثة لتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط , المشاريع الصغيرة والمتوسطة بدأت تنتعش , والاستثمار الأجنبي , وإن كان محدودًا , يشهد بعض النمو, هذه التحركات , وإن كانت بطيئة , تمثل بذور (( الوثبة )) التي يمكن أن تدفع بالعراق نحو مسار جديد.

المستقبل في العراق ليس محددًا بعد , ولكنه يعتمد على مدى قدرة القوى الفاعلة , من حكومة ومجتمع مدني وشباب واعي , على استغلال هذه الفترة (( الاستجماع )) لتحويلها إلى (( وثبة )) حقيقية نحو الاستقرار والازدهار والعدالة , إنها دعوة للتفاؤل الحذر, وإيمان بأن الإرادة الوطنية قادرة على تجاوز الصعاب وصنع غدٍ أفضل , وتبقى التحديات كبيرة ومتعددة , من استمرار التدخلات الإقليمية إلى ضعف المؤسسات الحكومية , ومن الحاجة إلى إصلاحات تشريعية عميقة إلى أهمية بناء الثقة بين المواطن والدولة , ولكن في خضم هذه التحديات , يظل بيت الجبرتي يضيء لنا زاوية مهمة من المشهد العراقي : أن (( الدهر)) لا يستقر على حال واحدة , وأن (( السكون )) قد يكون مجرد مرحلة تسبق (( الوثوب )) .

يقول المتنبي : ((لا خيل عندك تهديها ولا مالُ * فليُسعد النطق إن لم يُسعف الحالُ )) , يعكس هذا البيت فكرة تغير الحال وتبدله , فإذا لم يسعفك الحال (الظروف المادية) , فليكن لديك شيء آخر (النطق أو القول الحسن) يسعفك , أي أن الحال متقلب وليس ثابتًا , ولأبي تمام قوله : (( هُوَ الزَّمَانُ فَلا تَرْجُو دَوَامَ لَهُ * إِلاَّ عَلَى الْحَدَثِ الْمَحْمُودِ وَالشَّغَبِ )) , الذي يؤكد صراحة على أن الزمان لا يدوم على حال واحدة , وأنه مرتبط بالأحداث والاضطرابات (الشغب) , وهو قريب جدًا من معنى أن الدهر ليس ساكنًا بل مستعد للوثوب , وهذه الأبيات كلها , وبطرق مختلفة , تؤكد على ديناميكية الزمن وعدم ثباته , وأن السكون الظاهري قد يخفي وراءه استعدادًا للتغير الكبير, وهو المعنى الأساسي في بيت الجبرتي.

صباح الزهيري .







الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة الشاعرة .
- مقامة الثايات .
- مقامة العباءة .
- مقامة جبر الخواطر .
- مقامة فتوى الجلد .
- مقامة صرخة وطن .
- مقامة العتاب .
- مقامة الأسكافي .
- مقامة البصرة .
- مقامة تكريم كريم .
- مقامة الطيور .
- مقامة المصطلم .
- مقامة النداوة .
- مقامة دين ابن عربي .
- مقامة الجزع .
- مقامة المطارف و الحشايا .
- مقامة يا أمة ضحكت .
- مقامة إلا الزلق .
- مقامة توقيت الأنسحاب .
- مقامة القوة الناعمة .


المزيد.....




- شيرين عبد الوهاب وماجدة الرومي تختتمان مهرجان -موازين- 2025 ...
- عرض فيلم وثائقي عن جون لينون في موسكو الخريف المقبل (فيديو) ...
- انطلاق فعاليات مهرجان -أوراسيا - سينمافِست- الدولي الثاني في ...
- رحلة الفلبينية كويني باديلا من أضواء الشهرة إلى الإسلام
- علماء روس يجرون اختبارات محاكاة زلزالية لنموذج من قوس النصر ...
- مصر .. الفنان صبري عبد المنعم يتجاوز الخطر
- فنان سوري يثير الجدل بعد تعليقه على لقاء وزير الثقافة مع طفل ...
- إيران: المحكمة العليا تؤيد حكم الإعدام ضد مغني الراب تاتالو ...
- كراسي ماري أنطوانيت.. كنوز ملكية تبيّن أنها مزيفة!
- قراءة شاملة لجذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور المؤر ...


المزيد.....

- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الساكن و المتحرك .