صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8370 - 2025 / 6 / 11 - 10:44
المحور:
الادب والفن
الوسوسة لغة : مصدر قولهم : وسوس يُوَسوِس مأخوذ من مادة (و.س.س) التي تدل على صوت غير رفيع , يُقال لصوت الحُلي : وسواسٌ , وهمس الصائد : وسواسٌ , وإغواء الشيطان ابن آدم وسواس ,هي نوع من الأفكار غير المرغوب فيها , غالباً ما تكون مزعجة أو غير مريحة , وتحدث بشكل متكرر في أذهان الأشخاص المصابين بها, قد تكون هذه الأفكار على شكل مخاوف , أو أفكارًا , أو صورًا , أو دوافع على فعل شيء ما, هذه الأفكار تدفع الشخص إلى الانشغال بها بشكل مفرط , مما يؤدي إلى القلق والتوتر.
والوسواس: أفكار وصور ودوافع متكررة تسيطر على الوعي , وقد وجد الباحثون أن الشعراء والمفكرين والفلاسفة العرب مصابون بداء الوسوسة بالتأريخ والدين بل كان الشعراء يعتقدون ان لهم شياطينا تناجيهم وتلهمهم أشعارهم , وقد كتب الدكتور جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قبل الأسلام : ((ولا بد لي من أن أشير إلى ما كان يعتقده الجاهليون من أن الشعراء كانوا يستلهمون وحيهم بالشعر من شيطان , كنوا عنه بـ (( شيطان الشاعر)) , فقالوا: (( لكل شاعر شيطان )) , وهم يعبرون بذلك عن الحس الذي يصيب كل إنسان حساس شاعر عندما يهز مشاعره وإحساسه شيء ما يؤثر عليه فيستولي على عقله وشعوره ويستهويه , ولا يتركه يستقر ويهجع حتى يعبر عن شعوره هذا الذي يسطر عليه وملكه , بشعر يأتيه وكأنه وحي ينزل عليه تنزيلا , وعندئذ فقط يستقر ويهجع , بعد أن يكون قد نسب هذا الشعور المرهف الذي ألَمَّ به إلى وحي شياطين الشعر)) .
لطالما عانى العقل العربي من حالة من الوسوسة الفكرية , والتي تجلت في أشكال عدة عبر التاريخ , فبدلاً من الانفتاح على المعارف الجديدة والتفكير النقدي , انغمس هذا العقل في دوائر مفرغة من الجدل العقيم والتفسيرات المغلقة , هذا الانغلاق لم يكن مجرد ظاهرة هامشية , بل أصبح وسواسًا متفاقمًا يغذي نفسه بنفسه , جيلًا بعد جيل , لقد أسهمت عوامل متعددة في هذا الانغلاق والوسواس , منها الجمود الفكري الذي طال المؤسسات التعليمية والدينية , والتبعية الفكرية التي جعلت من الصعب على العقل العربي إنتاج أفكاره الخاصة , بالإضافة إلى الظروف السياسية والاجتماعية التي قمعت حرية التفكير والتعبير , كل هذه العوامل , مجتمعة , خلقت بيئة مواتية لنمو الوسواس وتفاقمه , ليصبح جزءًا لا يتجزأ من النسيج الفكري للمجتمع .
إن الوسوسة , تلك الحالة النفسية التي تتسم بالأفكار المتكررة والقهرية , ليست مجرد اضطراب فردي , بل يمكن أن تتسرب إلى تيار الفكر الجمعي لمجتمع ما , لتصبح عائقًا حقيقيًا أمام التقدم والازدهار , هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في سياق العقل العربي , الذي يبدو وكأنه انغلق على نفسه في دوائر ضيقة متسارعة الدوران , حيث تفاقم الوسواس ليحجم قدرة الأجيال على الاقتراب الموضوعي والعلمي من القضايا المحورية , وأضافة الى الوسواس التاريخي , فإن أخطر تداعيات هذا الانغلاق والوسواس هو إهمال العلم وتهميشه , فالعلم , بطبيعته , يتطلب انفتاحًا على التجربة والملاحظة , وقدرة على التفكير النقدي والتشكيك في المسلمات , ولكن عندما يسيطر الوسواس على العقل , فإنه يصبح أسيرًا لأفكار ثابتة لا تقبل التغيير أو التشكيك , مما يحول دون التطور العلمي , لقد انعكس هذا الإهمال بشكل واضح على مسيرة التطور العلمي في العالم العربي , حيث تراجع البحث العلمي وأصبح الإبداع نادرًا , لم يعد العلم غاية في حد ذاته , بل أصبح أداة لتحقيق مصالح ضيقة , أو مجرد زينة ثقافية لا قيمة لها .
كما أن هذا الانغلاق والوسواس أدى إلى اندحار المفكرين والفلاسفة , فالمفكر, بحكم طبيعته , يسعى إلى طرح الأسئلة الصعبة وتحدي الأفكار السائدة , ولكن في بيئة يسيطر عليها الوسواس , يُنظر إلى المفكر على أنه تهديد , وتُتهم أفكاره بالبدعة أو الانحراف , وهكذا , يُدفع المفكرون والفلاسفة إلى زوايا حادة وخانقة , حيث تصبح أصواتهم مهمشة وتأثيرهم معدومًا , هذا الاندحار ليس مجرد خسارة للأفراد , بل هو خسارة للمجتمع بأسره , الذي يحرم من العقول النيرة التي يمكن أن تدفعه نحو التقدم والازدهار , وإن تداعيات هذا الانغلاق والوسواس الفكري مريرة ومتعددة الأوجه , فمن جهة , فإنه يعمق الفجوة بين العالم العربي والعالم المتقدم , الذي يسير بخطى سريعة نحو التقدم العلمي والتكنولوجي , ومن جهة أخرى , فإنه يغذي التطرف الفكري والتعصب , حيث تصبح الأفكار المغلقة هي القاعدة , ويرفض أي صوت مخالف , لذلك , من الضروري أن يدرك العقل العربي خطورة هذا الوسواس , وأن يسعى إلى التحرر منه , هذا التحرر يتطلب جهدًا جماعيًا , يبدأ من تغيير المناهج التعليمية , إلى دعم البحث العلمي , وتشجيع التفكير النقدي , وصولًا إلى فتح الأبواب أمام المفكرين والفلاسفة , فالطريق نحو التقدم يبدأ بالانفتاح على الآخر , وتقبل التنوع , والتخلص من الأوهام والوساوس التي قيدت العقل العربي لعقود طويلة .
في الشعر الجاهلي , كان الاعتقاد بوجود (( شياطين الشعر)) أو (( نجي )) شائعًا بين الشعراء , حيث يُعتقد أن الشاعر يمتلك شيطانًا يملي عليه الشعر أو يلهمه به, كان هذا الاعتقاد جزءًا من الميثولوجيا العربية القديمة , حيث كان الجن والملائكة والأنفس البشرية تعتبر قوى مؤثرة في الحياة , وكان يُعتقد أن الجن والشياطين هي مصادر الوسوسة لإلهام الشعراء , وأنهم هم الذين يملون عليهم الشعر أو يحثونهم على الإبداع , وكان الكهان يستعينون بالشياطين في الأخبار عن المغيبات , يذكرون أن الشياطين يسترقون السمع من السماء , فيخبرونهم عن أنباء الأرض , وهكذا تكمن المشكلة الحقيقية في الوسواس المتفاقم في مسيرة الأجيال , ومن الواضح أن إنغلاق العقل العربي في دوائره الضيقة المتسارعة الدوران , حَجَّم قدرات الإقتراب الموضوعي والعلمي من الحالة , فأهمل العلم وما عاد يذكره , وإندحر المفكرون والفلاسفة في زوايا حادة خانقة ذات تداعيات مريرة .
يقول جميل صدقي الزهاوي : (( أسرفت يا إبليس في الوسواس فأعوذ منك برب هذا الناس , أغويتني من بعد ما استدرجتني مستحوذاً حتى على أنفاسي , حسنت في عيني الشرور فجئتها وضممت ارجاساً الى ارجاس , ونفذت في اعماق نفسي فاتحا حتى ملكت منافذ الاحساس , فتعاورتني للشكوك وساوس سود وعافت مجلسي جلاسي , افرغت قلبي من رضى يقينه وملأت بالشك المبرح راسي )) , ولأبن القيم كلام بديع في بيان مخاطر الخواطر السيئة والوساوس الشيطانية : (( لا ريب أن دفع الخواطر أَيسر من دفع الإِرادات والعزائم , فيجد العبد نفسه عاجزاً أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة , وهو المفرط إذا لم يدفعها وهى خاطر ضعيف , كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس , فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها)) , ويقول عبد الغني النابلسي : (( اغسلوا بي نجاسة الوسواس عن قلوب لكم بها الجهل راسي , يا صحابي فإنني ماء قدس نازل من حظائر الأقداس , وانشقوا عرف روضتي فعساكم أن تشموا منها شذا أنفاسي , واسبحوا في مياه بحر علومي واكشفوا بي ستائر الإلتباس , وادخلوا حانتي معي واشربوا من خمرتي واسكروا بفضلة كاسي )) .
صباح الزهيري .
#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟