صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8373 - 2025 / 6 / 14 - 10:33
المحور:
الادب والفن
مقامة البزرنكوش :
تفرع حديث جلستنا الأسبوعية في صالون الدكتور تحسين طه أفندي , حتى طرقنا كلمة البزرنكوش , ولما كنا ممن يراوح في عقده الثامن اوالتاسع , فقد اثارت الكلمة شجونا وشجون , بحكم الحسرة على العمر المغادر, ورثاء الشباب الذي ولّى , لتتسلل الأيام خفيةً , تاركةً وراءها ذكرياتٍ تارةً عذبةً , وتارةً مريرةً , ومع كل شمسٍ تغيب وشروقٍ جديد , نجد أنفسنا نتقدم في العمر, خطوةً بخطوة , نحو محطةٍ لا مفر منها , إنها حسرة العمر المغادر, شعورٌ يختلج الصدور ويداعب الخواطر, خاصةً عندما نسترجع شريط الذكريات لزمن الشباب والطاقة والحيوية , هذا الشعور العميق بالأسى على ما مضى من العمر, يجد صداه في وجدان الكثيرين , ويعبر عنه الفن والأدب بأشكال مختلفة , ولعل الأغنية الشعبية التي تقول : (( يا صديقي يا زارع البزرنكوش , ازرع لنا حنة , لأن الشيب قد غزا رؤوسنا )) هي خير مثال على هذه الحسرة , و(( البزرنكوش )) أو (( المردقوش )) هو نبات عشبي عطري معمر, يُعرف أيضًا باسم (( البردقوش )) أو (( المرزكوش )) , وهو من فصيلة النعناع وعندما يجفف ويطحن يصبح مثل نبات الحناء , و يتميز بخصائصه العطرية , وغالبًا ما يتم استخدامه في الطب الشعبي .
تُعتبر قصيدة أبي فراس الحمداني (أراك عصي الدمع شيمتك الصبرُ) , من أشهر قصائد الرثاء والتحسر, وفيها يتذكر الشاعر شبابه وعزّه : (( أَرَاكَ عَصِيَّ الدَّمْعِ شِيمَتُكَ الصَّبْرُ أَمَا لِلهَوَى نَهْيٌ عَلَيْكَ وَلا أَمْرُ , بَلَى أَنَا مُشْتَاقٌ وَعِنْدِيَ لَوْعَةٌ وَلَكِنَّ مِثْلِي لَا يُذَاعُ لَهُ سِرُّ, إِذَا اللَيْلُ أَضْوَانِي بَسَطْتُ يَدَ الهَوَى وَأَذْلَلْتُ دَمْعًا مِنْ خِدَاعِهِ مُرُّ, وَفِي حَدَقِ العَيْنَيْنِ نَارٌ وَلَوْعَةٌ وَفِي القَلْبِ خَفْقٌ بِمَاضٍ لَهُ ذِكْرُ)) .
تقول حكاية أغنية يا زارع البزرنكوش : (( كان البغداديون في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي من أصحاب الوجاهه يعقدون مجالس سمرهم في بيوتهم , وكان يحضر تلك المجالس وجوه مختلفه من علية القوم من ذوي العلم والفضل والأدب والشعر والسياسه , حيث يتجاذبون أطراف الحديث وتدور نقاشات حول أمور الساعه وامور مختلفه تستمر الى ساعة متاخرة من الليل , وكانت تتخلل هذه المجالس فترات جميله من العزف والمقام والبستات البغداديه التي تضفي على هذه الجلسات روحاً من المرح والسعادة , وفي شارع النهر المحاذي لنهر دجله في منطقة راس القريه كان هناك بيت بغدادي عتيق تطل احدى واجهاته على النهر ومدخله يؤدي الى زقاق ينفذ الى شارع الرشيد في الموقع المجاور للاورزدي القديم , وكان ذلك البيت يحتوي على حديقة غناء مزدانة بانواع الورود والازهار من جميع الاصناف , وكان صاحب الدار احد وجهاء بغداد الذي كان يرتاد مجلسه كل يوم جماعات من عشاق ورواد الادب والفن والشعر الى جانب ذلك كان صاحب الدار يقيم الحفلات الغنائيه والموسيقيه بين الحين والاخر , وفي احدى الامسيات وعندما اجتمع الجلاس في تلك الدار حضر احد الاصدقاء الذي كان في سفر الى اسطنبول , فرحب به صاحب البيت وابلغه الصديق انه قد احضر معه هدية جميله , واخرج من جيبه كيسا صغيرا وبدا يزرع محتوياته في حديقة الدار, واستغرب صاحب الدار متساءلا عن هذه البذور فاجابه الصديق انها بذور البزرنكوش , وانه نبات جميل ذو رائحة عطره فقال له صاحب الدار يا صديقي يا زارع البزرنكوش ازرع لنا حنه , لأن الشيب قد غزا رؤوسنا وصادف ان الفرقه الموسيقيه وقارئ المقام كانوا موجودين فاعجبهم الكلام وراحو يغنون بصوت واحد : (( يا زارع البزرنكوش ازرع لنا حنه )) , واستمروا في الغناء وفي كل مرة كانوا يضيفون الى البسته كلاما جديدا الى ان اخذت الاغنيه شكلها النهائي , وفي اليوم التالي بدأ الناس يرددونها في المقاهي والشوارع واصبحت بعد ذلك من اجمل اغاني الفولكلور البغدادي الاصيل )) .
هذه الكلمات البسيطة تحمل في طياتها معانٍ عميقة , (( البزرنكوش )) نبات ذو رائحة زكية يرمز إلى مرحلة الشباب الغض , مرحلة الجمال والنضارة والعطر الفواح , أما دعوة الصديق لزراعة (( الحنة )) بدلاً من البزرنكوش , فهي استعارةٌ واضحةٌ لغزو الشيب للرؤوس , وتعبيرٌ عن الواقع الجديد الذي فرضه الزمن , الحنة , التي تُستخدم لصبغ الشعر وإخفاء الشيب , تصبح رمزًا لمحاولة استعادة شيءٍ من الماضي , أو على الأقل , التكيف مع حاضرٍ لم نعد فيه بنفس الشباب والتألق , وليست الحسرة على العمر المغادر مجرد نوستالجيا للماضي , بل هي إدراكٌ عميقٌ لسرعة مرور الحياة , وتغير الأولويات , وتبدل الملامح , في ريعان الشباب , غالبًا ما نكون غارقين في أحلامنا وطموحاتنا , نركض خلف الأهداف دون أن نلتفت كثيرًا لمرور الوقت , ولكن مع تقدم العمر , نبدأ في التفكير مليًا في ما حققناه وما فاتنا , في الفرص التي أضعناها , وفي اللحظات التي لم نقدرها حق قدرها .
لم يسلم المتنبي على الرغم من عظمته , من التحسر على مرور الأيام : (( وَمَا تَقَضَّتْ سُنُونِي وَهِيَ فَارِغَةٌ إِلَّا وَقَدْ أَفْرَغَتْ مَعْهَا أَيَّامُ , تَذَكَّرْتُ شَيْئًا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْعُمُرِ وَمَا كُلُّ مَا يُرْجَى مِنَ الْعُمْرِ يُسْتَرُّ, لَقَدْ مَضَى الْعُمْرُ وَالْأَيَّامُ فِي لَعِبٍ كَأَنَّنِي فِي مَنَامٍ وَهْوَ لَا يَمُرُّ)) , إن هذه الحسرة , رغم ما فيها من ألم , يمكن أن تكون دافعًا للتأمل والتقدير, إنها دعوةٌ للاستمتاع باللحظة الحالية , وتقدير ما تبقى من العمر, واستثمار الوقت المتاح بحكمة , فبالرغم من أن الشيب قد غزا الرؤوس , وأن الأيام قد مضت , إلا أن الخبرة والحكمة التي اكتسبناها تظل رفيقًا ثمينًا , و تعكس قصيدة ابن الرومي بوضوح التغير الذي طرأ على الشاعر مع تقدم العمر: (( لَقَدْ أَسْفَرَتْ عَيْنِي وَأَصْبَحْتُ شَائِبًا وَمَا كَانَ شَيْبٌ قَبْلَ ذَلِكَ يَغْزُو , أَلَا لَيْتَ شَعْرِي هَلْ يَعُودُ لَنَا الْجَمَالُ وَهَلْ يَعُودُ شَبَابٌ قَدْ تَوَلَّى وَيَسْبُو)) .
العمر المغادر ليس نهاية المطاف , بل هو جزءٌ لا يتجزأ من دورة الحياة , وإن كانت أغنية ((يا زارع البزرنكوش )) ترثي زمن الشباب , فهي في الوقت نفسه تذكرنا بأن كل مرحلةٍ لها جمالها الخاص , وأن القيمة الحقيقية ليست في نضارة البزرنكوش وحدها , بل في ثراء التجربة وعمق الروح , فلتكن هذه الحسرة دافعًا لنا لعيش الحياة بامتنان , لتقدير كل لحظة , ولصنع ذكريات جديدة تدعم الروح وتثري الوجدان , فالحياة , وإن غزاها الشيب , ما زالت تحمل في طياتها الكثير من الجمال والإشراق .
صباح الزهيري .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟