صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8390 - 2025 / 7 / 1 - 11:53
المحور:
الادب والفن
مقامة الزمن الجميل :
صحافة ومعلقي التواصل لجماعة الدبابة البريميرية عندما يتهكمون على أقوال وكتابات الوطنيين , يهزأون بهم , ويصفوهم قائلين : (( من جماعة الزمن الجميل )) , وعندما حدثوا احد ابواقهم عن المصالحة وضربوا مثلا بجنوب افريقيا , رد غاضبا , )) لسنا مانديلا , ولا نرغب ان نكون مثله )) , هذا البوق الأسود تم منحه شهادة عليا من كليات ألأنفتاح , ومنحوه مقعد ألأستاذية في جامعة كانت رصينة .
قبل الغزو , كان العراق دولة ذات نظام شمولي مركزي تحت حكم حزب واحد , تميزت بالعديد من الجوانب , فعلى الرغم من القبضة المشددة , كان هناك نوع من الاستقرار الأمني , حيث كانت الدولة تسيطر بشكل كامل على الأوضاع الداخلية , وكان الاقتصاد العراقي يعتمد بشكل كبير على النفط , ورغم أنه كان يُعد من أفضل الاقتصادات في العالم العربي في الثمانينات , إلا أنه تأثر بشكل كبير بالحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة بعد عام 1990, وأدى إلى تدهور كبير في البنية التحتية , وارتفاع معدلات الفقر والبطالة , ونقص في الخدمات الأساسية , وكانت الحياة السياسية تحت سيطرة الحزب الحاكم , لا وجود للتعددية الحزبية أو الديمقراطية, كانت القرارات تُتخذ بشكل فردي من قبل القيادة العليا , وكانت المشاركة الشعبية أو المعارضة المنظمة تتم من داخل الحزب الحاكم , وكان هناك تركيز على الهوية الوطنية الموحدة التي فرضها النظام , وغياب للنزعات الطائفية أو العرقية , وبقي قطاعي التعليم والصحة يعملان رغم تأثرهما بالحصار.
أما بعد الغزو, فقد شهد العراق تحولات عميقة وكبيرة , كانت مدمرة , فقد دخل العراق في دوامة من الفوضى الأمنية والعنف الطائفي والإرهاب , مما أدى إلى موجات من النزوح والدمار وفقدان الأرواح , ورغم تراجع حدة العنف في فترات معينة , إلا أن التحديات الأمنية ما تزال قائمة , وقد أدت المحاصصة الطائفية إلى تفشي الفساد والمحسوبية , وأضعفت مؤسسات الدولة , وأثرت سلبًا على تقديم الخدمات للمواطنين , وأستمرغياب التوافق الوطني والصراع على السلطة والموارد بين الكتل السياسية المختلفة , مما أدى إلى عدم الاستقرار السياسي وتأخر تشكيل الحكومات في كثير من الأحيان , وساهم انتشار الميليشيات المسلحة خارج سيطرة الدولة في تدهور سيادة الدولة وتقويض سلطتها , وعلى الرغم من الارتفاع الكبير في أسعار النفط بعد الغزو, إلا أن العراق لم يستفد بشكل كامل من هذه الثروة , بسبب الفساد المستشري , وتدمير البنية التحتية , وتراجع القطاعات الأخرى (الصناعة والزراعة) مما جعل الاقتصاد هشًا ويعاني من بطالة مرتفعة وفقر واسع النطاق , وأصبحت البلاد تعتمد بشكل شبه كلي على واردات الغذاء والسلع الأساسية.
تظهر أعراض الحنين إلى الماضي في مجتمعاتنا كثيراً وخصوصاً في هذه الفترة , وأزعم أنه من الصعب أن تجد من يدّعي أنه لم يقع في فخها يوماً من الأيام , ولطالما سمعنا دائماً جملاً على نحو : كانت الحياة زمان غير , وكان الجمال غير, وكان الفن غير, إلى آخره من هذه الجمل الرومانسية الحالمة , ومن اللافت للنظر كيف يستخدم البعض عبارة (( جماعة الزمن الجميل )) للتهكم والسخرية من أقوال وكتابات الوطنيين , أو أولئك الذين يحملون رؤى مختلفة , تصبح هذه العبارة أداةً للتقليل من شأن الأفكار التي لا تتوافق مع الخطاب السائد , وكأن الارتباط بالماضي أو الحنين إليه يعد ضعفًا أو عدم قدرة على مواكبة الحاضر, وفي السياق ذاته , نجد ردود فعل غاضبة تجاه بعض المقارنات التي تهدف إلى حل الأزمات , فعندما تُطرح المصالحة على غرار تجربة جنوب أفريقيا , يأتي الرفض القاطع مصحوبًا بعبارات مثل: (( لسنا مانديلا ولا نرغب أن نكون مثله )) , هنا , يصبح نيلسون مانديلا , رمزا للنضال والمصالحة , وهذا الرفض العنيف يعكس مقاومةً لأي نموذج ملتزم حتى لو كان يحمل في طياته دروسًا مهمةً للخروج من الأزمات.
دائمًا ما يبرز مصطلح (( الزمن الجميل )) في أحاديثنا ومقالاتنا , يكتنفه سحر خاص يشدّنا إلى الماضي بجماله المُتخيَّل , تتجلى أعراض هذا الحنين في مجتمعاتنا بشكلٍ لافتٍ , خصوصًا في هذه الفترة التي نعيشها , أزعم أنه من الصعب أن تجد من يدّعي أنه لم يقع في فخ هذا الحنين يومًا , لطالما سمعنا عبارات مثل : (( كانت الحياة زمان غير )) , و ((كان الجمال غير )) , و(( كان الفن غير)) , وغيرها من الجمل الرومانسية الحالمة التي ترسم لوحةً ورديةً لأيامٍ مضت , لكن , هل هذا الزمن الجميل مجرد وهم يلوذ به البعض للهروب من مرارة الواقع ؟ أم أنه يعكس حقيقة أيام كانت أفضل ؟
تتزايد أعراض متلازمة الحنين هذه بشكل اضطرادي مع ازدياد سوء الأوضاع التي تعيشها دولنا اليوم , إذ نرى حنيناً مبالغاً فيه للماضي , ومحاولةً حثيثةً لتصويره بشكل رومانسي حالم , حتى من قِبل كتاب ومفكرين مشاهير , كما أننا نرى كثيراً من طبقات مجتمعاتنا تقدس الفعل الماضي (( كان )) كثيراً ولكنها تتناسى في الوقت ذاته أنه فعل ناقص منتهٍ , لن يُفيد سوى الإتيان بخبرٍ تمّ وانقضى , هو لا يقدم حلولًا للمستقبل , ولا يمنحنا قوةً لتغيير الحاضر , و قديما قالت الحكمة (( ليس الفتى من يقول كان أبي , بل الفتى من يقول ها أنا ذا )) , وهي مقولة حملت وصفة لنظرية الزمن الجميل , ووضعت التوازن المطلوب للتعامل مع الزمن , فلا تفريط في الماضي ولا إفراط فيه , لأن رسالة الفرد والشعب هي تحقيق القيمة المضافة للمجموعة وللإنسانية , وإلا كان عبئا على عالم لا يقبل المتفرجين في مسرح الحياة .
مع كل ما تقدم فأن جيلنا كان أكثر أنتاجا من أالاجيال اللاحقة , حيث أن خيرة المثقفين والادباء والكتاب والعلماء ينتمون الى جيلنا , جيل الزمن الجميل , أما الجيل الحالي , فأظنه (( جيل بعبع )) الذي حدثتنا عنه جدتي رحمها الله في غابر الايام وقالت عنه :(( جيل بعبع , ياكل ما يشبع , ادزه مايرجع )) , أتذكرعندما كنا نخرج في نهاية الدوام لم يكن بائع السكائر أو المخدرات يفترش بوابة المدرسة , ولا أذكرأنني أشتريت ملزمة لأي مادة , ولم يخصص أهلي أي مبلغ للمدرسين الخصوصيين لان أساتذتنا كانوا أكفاء في اختصاصاتهم , ولم نكن نواجه أي مشاكل أو ضغوط نفسية تستلزم مراجعتنا للمرشد التربوي , بل لم يكن لدينا في المدرسة مرشد تربوي أصلا , ومع أننا كنا نغيب عن البيت طوال اليوم , لم يقلق أحد من أهلنا علينا ولم ينتابه شعور أننا ضعنا أو أن عصابة قد أختطفتنا , بل كان شيئا أعتياديا لاننا لا بد أن نكون مجتمعين في أحد بيوت المحلة , ذلك هو معنى الزمن الجميل الذين يتهموننا به .
الزمن الجميل قد يكون فعلاً موجودًا في ذاكرتنا الجماعية , لكنه ماضٍ مضى , علينا أن ندرك أن لكل زمن تحدياته وجمالياته , وأن المبالغة في تمجيد الماضي قد تمنعنا من رؤية جمال الحاضر وفرص المستقبل , فماضينا هو جزء من هويتنا , لكنه لا يجب أن يكون كل مستقبلنا , وإن الاعتماد الكلي على (( الزمن الجميل )) كمرجعية دائمة , قد يعيقنا عن مواجهة تحديات اليوم , فإذا كنا نعيش في سحر الماضي , فقد نفقد القدرة على العمل بفاعلية لخلق مستقبل أفضل , والزمن يتغير , والمجتمعات تتطور, والحنين وحده لا يبني أوطانًا ولا يحل مشكلات , ربما يكمن الحل في إيجاد توازن بين الاعتراف بقيمة الماضي الذي دمره الغزو , واستلهام دروسه , وبين مواجهة تحديات الحاضر وبناء المستقبل , يمكن للحنين أن يكون مصدر إلهام , يدفعنا للحفاظ على القيم الجميلة التي كانت سائدة , أو يذكرنا بما فقدناه ونسعى لاستعادته , لكنه لا يجب أن يصبح قيدًا يمنعنا من التقدم أو سببًا للسخرية من أي محاولة للتغيير.
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟