أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة مربع المجون .















المزيد.....

مقامة مربع المجون .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8400 - 2025 / 7 / 11 - 14:50
المحور: الادب والفن
    


مقامة مربع المجون :

يُقدم لنا التاريخ الأدبي الإسلامي شخصيات ثرية بالتعقيدات , لكن بعضها يُحبس أحيانًا في صورة نمطية قد لا تعكس الحقيقة كاملة, من بين هؤلاء الشاعر أبو نواس , الذي غالبًا ما يُذكر اسمه مقترنًا بالخلاعة والمجون , فهل كانت حياته حقًا محصورة في (( مربع المجون )) هذا ؟ أم أن هناك جوانب أخرى خفية تستدعي إعادة النظر في شخصيته؟ هذه المقامة تتجاوز الصورة السائدة لتقدم قراءة معمقة لحياة أبي نواس , مستندًة إلى مصادر تاريخية موثوقة تكشف عن رجل امتزجت فيه جوانب المجون بالتدين , وبلغ به الأمر أن روى الأحاديث النبوية وأثر في أئمة كبار , دعونا نستكشف هذا الوجه الآخر لأبي نواس , ونرى كيف كانت حياته أكثر تعقيدًا وتنوعًا مما نتصور.

حدثنا أبو نُوَاس الحسن بن هانئ (ت 198هـ/813م)، قال: حدثنا حمّاد بن سَلَمَة (ت 167هـ/784م) , عن يزيد الرَّقَاشي (ت 119هـ/738م) , عن أنس بن مالك (ت 93هـ/713م) , قال : قال رسول الله : (( لا يَموتنَّ أحدُكم حتى يُحْسِنَ ظنَّه بالله , فإنّ حُسْنَ الظنِّ بالله ثَمَنُ الجنة )) , أبو نُوَاس؟ نعم إنه هو, إنه الشاعر الذي اشتهر بالخلاعة والمجون , فقد تجاوز العلماء في روايتهم عن أبي نُوَاس أحواله الشعرية المنفلتة إلى حمل ذخيرته من مرويات الحديث النبوي نفسه سالكين إياه في زمرة حمَلَتها , مهما كانت درجة تقييمهم لصحة هذه المرويات , فهذا الحافظ البغدادي (ت 463هـ/1072م) يترجم في ( تاريخ بغداد ) للمحدِّث محمد بن إبراهيم بن كثير الصيرفي (ت بعد 273هـ/886م) قائلا إنه (( رُوِي عنه عن أبي نُوَاس الشاعر حديثان مُسْنَدان )) .

وبالعودة إلى الحديث الذي رواه شاعرنا أبو نُوَاس عن حسن الظن بالله , فإن هذه السطور تقدم بعضا من ذلك الإحسان الموثَّق تاريخيا كاشفة عن الجانب الآخر من حياة أهل الأدب والشعر الذين يراد تنميط شخصياتهم في حيز الخلاعة والانفلات , واحتجاز الحياة الاجتماعية الأدبية الإسلامية في باحات الحانات والانحرافات , بينما تؤكد النصوص المروية في مصنَّفات أئمة الحديث المعتبَري- أن ثمة مسارا آخر يتجه ناحية التوبة والطاعة والانضباط وسم حياة كثير من الشعراء , وتفيدنا تلك المصادر بأن جمهرة عريضة من الأدباء أو على أقل تقدير رموز من يراد وصفهم بشعراء الخلاعة والمجون طالما اشتملت تجاربهم الشخصية على ملامح أخرى مناقِضة , فكانوا بسببها كما سنرى لاحقا أصحابَ تأثير علمي ووعظي كبير حتى على أئمة الزهد ومشايخ الدين , فضلا عما كان لهم من أدوار علمية جالسهم فيها من أصبحوا أئمة كبارا , وإسهامات اجتماعية ومعرفية تأسست عليها فنون تتصل بالمعارف الشرعية والأدبية.

يورد ابن كثير مقولة قاضي القضاة الشافعي المؤرخ ابن خلّكان في أبي نُوَاس : (( وما أشدَّ رجاءَه بربّه حيث يقول: (( تحمل ما استطعت من الخطايا فإنك لاقياً ربًّا غفورا )) , ثم يضيف هذا الإمام أنهم وجدوا على فراش أبي نُوَاس عند وفاته هذه الأبيات :
(( يا ربّ إن عظمت ذنوبي كَثرةً ** فلقد علمتُ بأنّ عفوك أعظم
أدعوك ربّي إذ أمرتَ تضرُّعاً ** فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحم؟
إن كان لا يرجوك إلاّ محسن ** فمن الذي يرجوه عبدٌ مجرم
ما لي إليك وسيلةٌ غير الرّجا ** وكريمُ عفوِك ثمّ إني مسلم )) , ويمكن اعتبار أبياته هذه فاتحة لشعر التوسل الديني الذي صار فيما من أبرز أغراض القصيدة العربية على مدى تاريخها.

لعل ما يعزز حضور الزهادة في شخصية أبي نُوَاس أواخر حياته ما نجده عنه من مرويات تحملها طلاب العلم وأدوها عنه بعد أن أصبحوا أئمة كبارا يقتدي بهم الناس في الفقه والحديث والأدب , فابن كثير يقول عنه في ترجمته: (( حكى عنه جماعة منهم الشافعي (ت 204هـ/819م) , وأحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) , والجاحظ ,ويكفينا أن الإمام أحمد بن حنبل لا يترك وهو رمز التمسك بالسنة ومنابذة خصومها ذكرياته في مجالس أبي نُوَاس وما كتبه عنه من (( أمالي )) شعره , فقد أورد ابن كثير حكاية عن الإمام اللغوي ثعْلب (ت 291هـ/904م) يقول فيه : (( دخلت على أحمد بن حنبل فرأيت رجلا تهمُّه (= تشغله) نفسه , لا يحب أن يُكْثر عليه كأن النيران قد سُعِّرت بين يديه , فما زلت أترفق به وتوسلت إليه أني من موالي شيبان (= قبيلة الإمام أحمد) حتى كلمني , فقال: في أي شيء نظرتَ من العلوم؟ فقلت: في اللغة والشعر, قال: رأيت بالبصرة جماعة يكتبون عن رجل الشعر, ( فسألتُ عنه فـ) ـقيل لي : هذا أبو نُوَاس , فتخلَّلتُ الناسَ ورائي , فلما جلست إليه أملى علينا :
(( إذا ما خلوتَ الدهرَ يوما فلا تقل:ْ ** خلوتُ , ولكنْ في الخَلاء رقيبُ
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة ** ولا آثماً يخفَى عليه يغيبُ
لَهَوْنا عن الآثام حتى تتابعتْ ** ذنوبٌ على آثارهن ذنوبُ
فيا ليت أنّ الله يغفر ما مضى ** ويأذن في توباتِنا فنتوب )) .

والواقع أن العلماء تجاوزوا في روايتهم عن أبي نُوَاس مستوى أماليه الشعرية إلى حمل ذخيرته من مرويات الحديث النبوي نفسه , مهما كانت درجة تقييمهم لصحة هذه المرويات , فهذا الحافظ البغدادي يترجم في (تاريخ بغداد) للمحدِّث محمد بن إبراهيم بن كثير الصيرفي (ت بعد 273هـ/886م) , قائلا إنه (( رُوِي عنه عن أبي نُوَاس الشاعر حديثان مسندان )) ومن تأثير علاقة أبي نُوَاس بطلب الحديث النبوي -في شبابه- ما أدخله في الشعر العربي من مضامين اقتبسها من مناهج أهل الحديث على مستوى الإسناد والمتن , وهو ما نجد شواهده في كتب حفاظ الحديث كابن عساكر والسيوطي الذي احتفى بمرويات أبي نُوَاس الحديثية التي ضمن معانيها في شعره , بل وصدَّر بها مصنَّفَه الطريف في فكرته وغرضه وهو كتاب : ( الازدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار) , وقد قال السيوطي ان أول مثال جاء به هو نظم أبي نُوَاس لمضمون متن الحديث النبوي الشريف : (( القلوب جنود مجنَّدة , فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف )) , وذلك بقوله من أبيات : (( إن القلوب لأجنادٌ مجنَّدة ** لله في الأرض بالأهواء تعترفُ فما تناكرَ منها فهْو مختلفٌ ** وما تعارف منها فهْو مؤتلفُ )) .

يقدّم لنا ابن أبي الإصبع (ت 654هـ/1256م) قدم في كتابه ( تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر) صورة تكاد تحافظ على أبي نُوَاس متحليا بشخصيتين متنافرتين , فقد أورد له هذين البيتين : (( وإذا جلست إلى المدام وشربها ** فاجعل حديثك كله في الكاس , وإذا نزعت عن الغواية فليكن ** لله ذاك النزع لا للناس )) , ثم علق عليهما بقوله : إن (( حسن النسق لاءم بين فنين متضادين في هذين البيتين : وهما المجون والزهد حتى صارا كأنهما فن واحد )) , ووبالجملة , فإن حالة التردد بشأن الحكم القيمي على أبي نُوَاس وشعره هي ما يلخصه ابن كثير في ( البداية والنهاية ) بقوله : (( فقد ذكروا له أموراً كثيرة ومجوناً وأشعاراً منكرة , فمن الناس من يفسِّقه , ومنهم من يرميه بالزندقة , أما الزندقة فبعيدة عنه , ولكن كان فيه مجون وخلاعة كثيرة )) .

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة النوم .
- مقامة السكارى .
- مقامة الكتابة .
- مقامة الأنهيار .
- مقامة صدأ الروح .
- مقامة الرحاب .
- مقامة الدهاليز .
- مقامة الخواطر .
- مقامة طباخات الرطب .
- مقامة الزمن الجميل .
- مقامة العيون عيون .
- مقامة الفرهود .
- مقامة سجدة الشعر .
- مقامة المزبلة .
- مقامة حب التوكسيك .
- مقامة شاعر الكأنات .
- مقامة التفاوض .
- مقامة المرارة .
- مقامة الأقنعة .
- مقامة نبوءة القبانجي .


المزيد.....




- دنيا سمير غانم تعود من جديد في فيلم روكي الغلابة بجميع ادوار ...
- تنسيق الجامعات لطلاب الدبلومات الفنية في جميع التخصصات 2025 ...
- -خماسية النهر-.. صراع أفريقيا بين النهب والاستبداد
- لهذا السبب ..استخبارات الاحتلال تجبر قواتها على تعلم اللغة ا ...
- حي باب سريجة الدمشقي.. مصابيح الذاكرة وسروج الجراح المفتوحة ...
- التشكيلية ريم طه محمد تعرض -ذكرياتها- مرة أخرى
- “رابط رسمي” نتيجة الدبلومات الفنية جميع التخصصات برقم الجلوس ...
- الكشف رسميًا عن سبب وفاة الممثل جوليان مكماهون
- أفريقيا تُعزّز حضورها في قائمة التراث العالمي بموقعين جديدين ...
- 75 مجلدا من يافا إلى عمان.. إعادة نشر أرشيف -جريدة فلسطين- ا ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة مربع المجون .