صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8397 - 2025 / 7 / 8 - 10:19
المحور:
الادب والفن
يبدو ان صاحبنا الثمانيني قد حول أتجاه قلبه من الشام الى الكويت , فبعد صاحبته الكلبية , التي كان يناديها بنخلة الشام ويقول ان كلماتها رطب في زمن تشتد فيه ملوحة كل شيء , هاهو ينقل الينا قول كاتبة كويتية : (( بالكتابة يتم اصطياد الفرح )) , إنَّ هذه العبارةَ ليستْ مجردَ مقولةٍ عابرةٍ , بل هيَ فلسفةٌ عميقةٌ تُجسّدُ العلاقةَ الحميمةَ بينَ التعبيرِ الإنسانيِّ والسعادةِ , عندما نُمسكُ القلمَ , سواءً لكتابةِ يومياتٍ شخصيةٍ , قصيدةٍ مُلهمةٍ , قصةٍ قصيرةٍ , أو حتى مجردِ خواطرَ عفويةٍ , فإننا نَخلقُ مساحةً آمنةً لذواتنا , مكانًا تتجلّى فيهِ المشاعرُ بلا قيودٍ ولا أحكامٍ , هنا , لا يكونُ الفرحُ مجردَ شعورٍ لحظيٍّ يمرُّ سريعًا , بل يصبحُ كيانًا ماديًا , يتمُّ الإمساكُ بهِ عبرَ الحروفِ التي نُشكّلها.
هناك من كتب : ((وهل تكون الحروف غير آثار أرواحنا ؟)) , تقول الشاعرة الأمريكية الشجاعة أدريان ريتش :(( نحن نمضي , لكن كلماتنا باقية , لتغدو مؤولةً عمّا هو أكثرُ مّما قصدناه )) , والكاتب يستعين بأدواته الماهرة ليفتح الكثير من القواقع , وليقاسم الفرح لؤلؤ الحرف ومرجان الاحساس , فلتهنأ النخلة ما دام مطراً يسقيها في زمن شحّت فيه الأنهار , لتكون كتاباته مثل هدية العيد. وكل مقال هدية وتشوقاً إلى المقال التالي , سألت الكاتبة الكويتية باسمة العنزي صديقتها بشرى خلفان : ما حلم بشرى؟ فأجابت : (( بيت لي وحدي أكتب على جدرانه ما أشاء )) , وأضافت (( من خلال وظيفتي في الجامعة , مارست طويلا تدريس استراتيجية الكتابة واستراتيجية القراءة , وكنت دائما ما أشير لطلبتي إلى أن كلتا المهارتين تصبّ في منبع واحد , وأن القارئ الجيد بإمكانه أن يكون كاتبا جيدا والعكس صحيح , لكنني هنا وفي هذا المقام لا أقارن بين أهمية كلتا المهارتين وانما أتساءل: أيهما أكثر متعة؟)) .
من سموّ أخلاق المبدع : أن يقوم بنشر خفايا تجربته , وتعليم غيره , واحتواء المبتدئين وفتح آفاق الإبداع أمامهم , و تحضرني هنا مقولة لكونديرا يُفهم منها أن لدى الكاتب فكرة واحدة , يكرّس لها كل كتاباته , كأنه يرى أن تلك الفكرة تتجلى بعمق أكبر في واحد من كتبه , فيما بقية الكتب هي تنويعات على الفكرة نفسها , التوقعات العالية ليست نتاج عقل خَبَرَ هذه الحياة , وعرف طبائع الناس وكيف يفكّرون وكيف يعيشون , حصل مرّة أو مرّتين أن إعتزمتُ التوقف عن الكتابة , لكني كنت أسائلُ نفسي : وهل سأكون بحال أفضل لو توقفتُ عن الكتابة ؟ حين تُصطادُ البهجةُ بالحبرِ والورق , تكون الكتابةُ فخٌّ للفرحِ , ففي زحمةِ الحياةِ ورتابةِ الأيامِ , غالبًا ما يتسللُ الفرحُ خلسةً , يتوارى خلفَ همومٍ صغيرةٍ أو ضغوطٍ متراكمةٍ , نبحثُ عنه في الأماكنِ الصاخبةِ , في التجمعاتِ الكبيرةِ , أو حتى في لهوٍ عابرٍ, ولكننا قلّما ندركُ أنَّ أعظمَ فخٍّ يمكنُ أنْ نَنصبَهُ لاصطيادِ هذهِ المشاعرِ النقيةِ يكمنُ بينَ أصابعنا , في قلمٍ وورقةٍ , أو خلفَ لوحةِ مفاتيحٍ بيضاءَ , إنَّها الكتابةُ , تلكَ العمليةُ السحريةُ التي تُحوّلُ العواطفَ المتناثرةَ إلى كلماتٍ , والأفكارَ العابرةَ إلى نصوصٍ خالدةٍ , لتصبحَ بذلكَ أداةً فريدةً لاصطيادِ الفرحِ وتخليدِهِ .
تخيلْ لحظةً من البهجةِ الصافيةِ : ضحكةُ طفلٍ , شروقُ شمسٍ على أفقٍ بعيدٍ , إنجازٌ طالَ انتظارُهُ , هذهِ اللحظاتُ العابرةُ , رغمَ جمالها , قد تتلاشى في غياهبِ الذاكرةِ , لكنْ , عندما نُحوّلها إلى كلماتٍ , نُدوّنُ تفاصيلها , نُحلّلُ أسبابها , ونُعبّرُ عن تأثيرها في أرواحنا , فإننا نُثبّتُها , تُصبحُ كلُّ كلمةٍ فخًّا صغيرًا يُمسكُ بقطرةٍ من ذلكَ الفرحِ , ويُجمّدُها في الزمنِ , بهذهِ الطريقةِ , يمكننا العودةُ إلى هذهِ الصفحاتِ في أيِّ وقتٍ , واستعادةُ تلكَ المشاعرِ, كأننا نعيشُها مرةً أخرى ,انه بوح رائع بصدقه وعفوية انسيابه لصاحبتك الكويتية , شخصياً اعتبره محظوظاً مَن امتلك محفزاً واحداً للنهوض من رقاد السرير المفروض عليه , حتى وان أختُصِرَ ذلك المحفز بسقي زهرة , او اطعام قطة تنتظره لتعيش , فما اروع ان يكون الدافع مباهج الغوص في بحور الكتابة , وحضرتها قبطان السفينة المحملة بكنوز الفكر و الفلسفة و العلم و الادب , فلها من خلالك بساتين المحبة و العافية أديبتنا الغالية , أيّ منها هو الظل وأيها الأصل ؟
ليست الكتابةُ حكرًا على الأدباءِ والمحترفينَ , كلُّ فردٍ يمتلكُ القدرةَ على الكتابةِ , وكلُّ فردٍ يمتلكُ الحقَّ في اصطيادِ فرحهِ بهذهِ الطريقةِ , سواءً أكانتْ رسالةً شكرٍ نُرسلها لصديقٍ, أو وصفًا مُفعمًا بالحياةِ لرحلةٍ جميلةٍ , أو حتى مجردَ قائمةِ امتنانٍ يوميةٍ , فإنَّ كلَّ كلمةٍ تُكتبُ بصدقٍ هيَ خطوةٌ نحو احتضانِ الفرحِ وتثمينهِ , والكتابةُ أيضًا هيَ عمليةُ اكتشافٍ للذاتِ , ففي أثناءِ الكتابةِ , قد نُدركُ مصادرَ الفرحِ التي لم نُلاحظها من قبلُ , قد نُفاجأُ بمدى تأثيرِ أبسطِ الأشياءِ في نفوسنا , أو نُعيدُ تقييمَ أولوياتنا , عندما نُفصّلُ مشاعرَنا على الورقِ , نُصبحُ أكثرَ وعيًا بداخلنا , وهذا الوعيُ غالبًا ما يقودُ إلى حالةٍ من الرضا والسلامِ الداخليِّ , وهما من أهمِّ مكوناتِ الفرحِ الحقيقيِّ , فلنجعلْ من الكتابةِ عادةً يوميةً , ليسَ فقط للتعبيرِ عن أحزاننا وهمومنا ونفثها , بل أيضًا للاحتفالِ ببهجتنا , لنجعلْ من الحبرِ والورقِ فخًّا أنيقًا نُمسكُ بهِ الفرحَ قبلَ أنْ يتسللَ من بينِ أيدينا , ونُخزّنهُ في صفحاتٍ تُصبحُ بمثابةِ كنزٍ ثمينٍ نستمدُّ منهُ النورَ كلما احتاجتْ أرواحنا إليهِ , لأنَّ الفرحَ , كالصيدِ الثمينِ , يستحقُّ أنْ نُجاهدَ لاصطيادِهِ , ولا توجدُ أداةٌ أنبلُ وأجملُ من الكتابةِ لتحقيقِ ذلكَ .
تجربتي الشخصية مع الكتابة تجعلني أعطيها الأفضلية في بعض النواحي , فالكتابة غالبا ما تحوي في إطارها حوارا مع النفس والعقل والذات , سواء كانت كتابة أدبية أو نقدية أو سياسية , في الكتابة يكون الكاتب هو المؤدي وهو الجمهور في الوقت نفسه , هو المتحدث والناقد معا , وهو المرسل والمتلقي كذلك , لذلك , وبرأيي انها وان كانت اكثر مشقة وصعوبة , فإنها ايضا اكثر إلهاماً وتأجيجا للقريحة ولكل ما تضج به ذواتنا , لقد وقعت في مصيدة الكتابة , التي لم تبارحني , مثلما لم تفارقني المعاناة والمكابدة التي كانت حقيقية , كانت الكتابة بالنسبة لي متعة وعذاب على حد تعبير الروائي غابريل غارسيا ماركيز , فهي لذّة وألم في آن , وكنت أريد الآني لدرجة لا أريد لحظة تطير من بين أصابعي , كنت أريد أن أحوّل كل ذلك إلى الكتابة وحسب حكمة همنغواي : (( لا يجوز للمرء أن يتوقف عن الكتابة سوى بعد أن يعرف كيف سيتابع في اليوم التالي , أي ماذا سيكتب؟ )) .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟