صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8411 - 2025 / 7 / 22 - 20:05
المحور:
الادب والفن
الهبريس Hybris ,هو مصطلح قديم يأتي من اللغة اليونانية , ويعني الغطرسة أو التكبر المفرط , وخاصة عندما يكون مرتبطاً بتحدي أو تجاهل القوانين الأخلاقية أو الآلهة , وفي الدراما الإغريقية , يُعدّ الهُبْرِيس علة نفسية وعيباً مأساوياً يدفع البطل نحو الانهيار, إنه ليس مجرد كبرياء, بل هو تجاوز للحدود التي رسمتها الآلهة والطبيعة والقدر, اعتقاداً زائفا منه بأن الذات قادرة على تحدي المستحيل , وفي الأدب الكلاسيكي غالباً ما يرتبط الهبريس بالشخصيات التي تتصرف بتكبر شديد وثقة مفرطة بالنفس , مما يؤدي في النهاية إلى سقوطها أو معاناتها من العواقب الوخيمة , وفي السياقات الحديثة , يستخدم المصطلح للإشارة إلى الأشخاص الذين يتجاوزون حدودهم بشكل مغرور , أو الذين يستخفون بالتحذيرات أو بالعواقب نتيجة لثقتهم الزائدة .
(( شيكيلا )) في مسرحية (( بترا )) وحّدت شعبها خلفها وقادته بكفاءة سياسية وعسكرية عالية فاستحقت الانتصار (المؤقت) , وكانت تحمل مشروعاً طموحاً لبناء مملكة تنعم بالسلام والازدهار , وهدفها الأعلى الحرية , لكن هذا الطموح اصطدم بقوة خارجية عاتية فتحطم , من هنا تقترب (( بترا )) من الشكل الدرامي أكثر من اقترابها من الشكل الملحمي لأن البطل فيها يصنع مصيره الذي أراده لنفسه , فقد وضعت (( شيكيلا )) نفسها ووطنها في موقف صعب تماماً , وولدت الأزمة من صراع غير متكافئ كان لابد أن ينتهي بخسارة البطل على غرار التراجيديا الإغريقية حيث نرى أن أقصى حد يصل إليه البطل هو موته بعد أن تسحقه القوى المضادة , وقد يضحّي بنفسه ويعذّبها كما فعلت (( ميديا )) عندما ذبحت بيدها ولديها انتقاماً من زوج خائن في المسرحية التي تحمل اسمها عند يوريبيد , وحفاظاً على كرامتها الملكية تخلت (( شيكيلا )) عن ابنتها لتموت ذبحاً بيد الرومان حتى لا تستسلم.
إنها صفات كاملة للبطل التراجيدي الذي يتحمل مسئولية (( التطرّف )) , أي التجاوز المفرط أو الغطرسة المتطرفة , وكان الإغريق يسمّونه الهبريس Hybris أي (( التطرّف )) في الموقف بالرغم من المعرفة المؤكدة بالخسارة , لأن الدراما لا تقوم على أشخاص ضعيفي الإرادة لا يستطيعون اتخاذ القرارات , بالرغم من أن هذه القرارات قد تؤدي بهم إلى الموت , لأن الدرامية تحتاج إلى الفعل كي تتجسّد , فالدراما توحّد موضوعية الشعر الملحمي وذاتية الشعر الغنائي , هذا التصرف يؤدي حتماً إلى (( نيميسيس )) Nemesis , أي العقاب الإلهي الذي يعيد ترتيب النظام الكوني على حساب سقوط البطل , وهي اليد الإلهية التي تفرض العقاب , النيميسيس ليست انتقامًا عشوائيًا , بل هي القوة التي تعيد ترتيب النظام الكوني على حساب سقوط البطل , إنه العدل الإلهي الذي يصحح اختلال التوازن الذي أحدثه الهُبريس , ويعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي , بهذا , يصبح سقوط البطل ليس مجرد نهاية مأساوية لشخصية , بل تأكيدًا على سيادة النظام الكوني وعدالة الآلهة , ويمكن التفكير في أمثلة من المسرح الإغريقي مثل أوديب أو أجاكس لتوضيح كيف قاد الهُبريس أبطالهم إلى نهاياتهم المأساوية , وكيف تجلت النيميسيس في قصصهم .
الهُبريس والنيميسيس : علة السقوط في الدراما الإغريقية , حيث في جوهرها لا يمثل الهُبريس مجرد كبرياء متضخم , بل هو علة نفسية وعيب مأساوي يدفع بالبطل نحو حتفه وسقوطه المدوي , ليتجاوز هذا المفهوم حدود الغطرسة الشخصية ليلامس جوهر التحدي المستحيل , والَهُبريس هو تجاوز للحدود المقدسة التي رسمتها الآلهة والطبيعة والقدر, إنه اعتقاد زائف بقدرة الذات على قهر ما هو أسمى , والتعالي على القوانين الكونية التي تحكم الوجود , هذا التجاوز ليس مجرد خطأ عابر, بل هو خرق للنظام الإلهي الذي يفرض توازنًا دقيقًا بين البشر والآلهة.
لقد قيل قديماً إن الإخفاق إذا وقع مرة واحدة فإنه قد يُغتفر, لكنه إذا تكرر, فلا مغفرة ولا تسامح , والهُبريس في المشهد العراقي والإقليمي , قد تبدو مفاهيم الدراما الإغريقية بعيدة عن واقعنا , لكنها تحمل في طياتها حكمة عميقة يمكن إسقاطها على ما يحدث في العراق والمنطقة, فكثيرًا ما نشهد (( هُبريسا )) جماعيًا أو فرديًا يدفع نحو عواقب وخيمة , تتجلى فيها (( النيميسيس )) بوضوح مؤلم , فقد شهدت المنطقة ولا تزال تشهد قادة أو أنظمة تعتقد بقدرتها المطلقة على التحكم بالقدر والمصير, متجاهلة أصوات شعوبها أو القوانين الدولية, هذا الاعتقاد بقدرة الذات على (( تحدي المستحيل )) دون الأخذ بالاعتبار للواقع المعقد أو لتداعيات القرارات , غالبًا ما يقود إلى مآسٍ إنسانية وصراعات لا تنتهي .
القيادة المتغطرسة وتجاوز الحدودالطائفية والهُبريس الاجتماعي , يمكن أن يتجلى الهُبريس في التعصب الطائفي أو العرقي, حيث تعتقد مجموعة أنها أسمى من الأخرى , أو أن لها الحق المطلق في فرض رؤيتها , هذا التجاوز للحدود الإنسانية والاجتماعية يؤدي حتمًا إلى (( نيميسيس )) تتمثل في تفكك النسيج المجتمعي , الاقتتال الداخلي , والتدخلات الخارجية التي تعيد (( ترتيب النظام )) على حساب الجميع , كما انه ليست الأطراف الداخلية وحدها من تقع في فخ الهُبريس , فكثيرًا ما تسعى قوى إقليمية أو دولية لفرض هيمنتها, متجاهلة الخصوصيات الثقافية والتاريخية للشعوب , أو متجاوزة للأعراف الدبلوماسية , هذا (( الَهُبريس الجيوسياسي )) غالبًا ما يؤدي إلى (( نيميسيس )) على شكل مقاومة غير متوقعة , أو تحالفات مضادة , أو حتى فوضى إقليمية تعصف بجميع الأطراف.
عندما يتفشى الفساد ويصل إلى مستويات غير مسبوقة , فإنه يعكس نوعًا من الهُبريس الاقتصادي حيث يعتقد الفاسدون أنهم فوق المحاسبة , وأن ثروات البلاد ملك لهم , النيميسيس هنا تتجلى في انهيار الاقتصاد , تردي الخدمات , وتزايد الفقر, مما يؤدي إلى غضب شعبي وتداعيات اجتماعية وسياسية وخيمة , إن ما يحدث في العراق والمنطقة ليس بمعزل عن هذه المفاهيم , فالصراعات , الأزمات , والتحديات الراهنة يمكن قراءتها من منظور (( الَهُبريس )) الذي أدى إلى (( النيميسيس )) بأشكالها المتعددة , إن فهم هذه الديناميكية يساعدنا على إدراك أن تجاوز الحدود , سواء كانت أخلاقية , سياسية , أو اجتماعية , غالبًا ما يؤدي إلى عواقب وخيمة لا مفر منها , فهل يمكننا , كأفراد ومجتمعات , أن نتعلم من هذه الدروس القديمة لتجنب تكرار المآسي؟
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟