صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8410 - 2025 / 7 / 21 - 13:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أكد الدكتور فارس كمال نظمي (( أن المقصود بالرثاثة ليست عناصر الفقر أو الحرمان الاقتصادي أو التدهور المعيشي , بل هي مصطلح يعبّر عن مناخ لا حضاري , منحط وفاسد , اخترق الكينونة العراقية على المستويين المجتمعي والدولتي , بتأثير منظومات القيم الرثة التي أشاعها التدين الزائف , نتيجة الحراك السوسيوسياسي الذي أتاحه الاحتلال الأمريكي ابتداءً من 2003م حتى الآن , حينما أعاد بناء السلطة السياسية على نحو أتاح لأكثر الفئات الاجتماعية تخلفاً ورجعية (الدين السياسي والعشيرة السياسية) أن تمسك بمصير البلاد , طاردةً كل التراث العقلاني والجمالي والتنويري الذي كافح من أجله ملايينُ العراقيين على مدى أكثر من ثمانين عاماً )) .
(( وإذا البيوتُ هوتْ من بعدِ عزّتها لم يبقَ للناسِ إلا وحشةُ السكنِ )) , يعكس هذا البيت انهيار ما كان يُفترض أن يكون ثابتًا ومحصّنًا , مثل مؤسسات الدولة التي هوت بعد أن كانت رمزًا للقوة والعزة , ليحل محلها فراغ ووحشة , (( ما كانَ حصنًا قد تداعى رُكنُهُ وباتَ وَهْنًا كبيتِ العنكبوتِ رَثُّ )) , هنا , يتم تشبيه قوة الدولة التي كانت ذات يوم حصنًا ببيت العنكبوت , وهو رمز للضعف والوهن والهشاشة , مما يعكس الرثاثة التي ضربت كل ركن .
يلتقط مصطلح (( الرثاثة )) بدقة جوهر الوضع الذي خلقه الإسلام السياسي في العراق بعد عام 2003 , والمقصود بمصطلح (( الرثاثة )) غالبًا الهشاشة , التدهور, أو الاهتراء , وهو مصطلح دقيق جدًا لوصف حالة الإسلام السياسي في العراق بعد عام 2003 , وتحديدًا لدوره في التدهور الشامل الذي شهده البلد , يمكن تحليل هذا الإسقاط من عدة زوايا , مع التركيز على الوظيفة الهدمية التي أداها هذا التيار , ومع صعود أحزاب الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في العراق , لم يقتصر الأمر على الفشل في بناء دولة قوية ومستقرة , بل امتد ليشمل تفكيك البنى القائمة وتآكل النسيج الاجتماعي , يمكن رصد مظاهر (( الرثاثة )) في رثاثة المؤسسات , فبدلًا من بناء مؤسسات دولة قوية ومحايدة , أصبحت المؤسسات الحكومية , من الجيش والشرطة إلى الوزارات والهيئات , مخترقة بفعل الولاءات الحزبية والطائفية , مما أدى إلى غياب الكفاءة , وانتشار الفساد , وتآكل الثقة العامة في الدولة, ولم تعد هذه المؤسسات تمثل السلطة الشرعية للدولة , بل أصبحت أدوات لخدمة مصالح أحزاب معينة.
فشل الإسلام السياسي في العراق في بناء اقتصاد مستدام ومنتِج ,على الرغم من الثروة النفطية الهائلة , وأدت السياسات الريعية , وغياب الرؤية الاقتصادية , والفساد المستشري إلى تدهور البنية التحتية , وارتفاع معدلات البطالة , وتفشي الفقر, وأصبح الاقتصاد العراقي (( رثًا )) بمعنى اعتماده الكلي على النفط , وعدم قدرته على توفير فرص حقيقية للمواطنين , أما رثاثة النسيج الاجتماعي , فقد أدت سياسات الإسلام السياسي , التي غالبًا ما تستند إلى التقسيمات الطائفية والعرقية , إلى تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي , وتعززت الانقسامات بدلًا من تجاوزها , مما أدى إلى صراعات داخلية , وغياب الهوية الوطنية الموحدة , وأصبح المجتمع العراقي (( رثًا )) في تماسكه , وسهل اختراقه من قبل الأجندات الخارجية والجماعات المتطرفة.
لم يكن دور الإسلام السياسي في العراق مجرد (( فشل )) في البناء , بل كان له وظيفة (( هدمية )) واضحة , وتم هدم مفهوم الدولة المدنية , حين سعت أحزاب الإسلام السياسي إلى فرض أجندات دينية وطائفية على الدولة , مما أضعف مفهوم الدولة المدنية والمواطنة المتساوية , وأصبحت الهوية الدينية والطائفية مقدمة على الهوية الوطنية , وهذا قوض أسس الدولة الحديثة , وهدمت الثقة في العملية السياسية , وأدت الممارسات الفاسدة , والمحاصصة الطائفية , وغياب الشفافية إلى فقدان المواطنين ثقتهم في العملية السياسية برمتها , هذا الهدم للثقة فتح الباب أمام اليأس , والاحتجاجات المتكررة , وفي بعض الأحيان , العنف , وقد تم هدم الوحدة الوطنية من خلال تعزيز الخطابات الطائفية والانقسامية , وساهم الإسلام السياسي في تآكل الوحدة الوطنية , وأصبح العراق ساحة للصراعات بالوكالة , حيث تلعب الفصائل المسلحة التابعة لأحزاب معينة دورًا أكبر من دور الجيش الوطني.
لقد سرى فساد النخب وتدهور الأخلاق , حتى قال الشاعر : (( أصابَ الداءُ أربابَ البلادِ فَمَا بقيَ الصحيحُ سوى جرحٍ بآلامِ )) , في وصف للكيفية التي طال فيها الفساد القادة أنفسهم , الذين كان من المفترض أن يكونوا صمام الأمان , فأصبحوا هم مصدر الداء , ولم يبقَ إلا الجراح والألم في جسد الوطن , (( فصارَ القومُ لا يخشونَ لومًا وباتَ الخائنُ الممدوحُ خِلًّا )) , في أشارة إلى انقلاب المعايير الأخلاقية , حيث لم يعد هناك خجل من الفساد , وأصبح الخائن يحظى بالمديح والموالاة , مما يدل على اهتراء المنظومة الأخلاقية والقيمية.
أن الرثاثة في العراق هي نتاج حتمي لتغوّل الدين السياسي على الثقافة المجتمعية بمضمونها القيمي والسلوكي المعتدل , حيث ان السلطة المصطنعة الحالية قامت بأصنمة الدين وفك ارتباطه البنيوي العفوي بالمنظومة النفسية – الأخلاقية للفرد العراقي , وجعلت منه كائناً استعلائياً (( خارقاً )) يتجاوز وظيفتَه المعاييرية التنظيمية إلى وظيفة تسلطية عقابية , ولا يمكن إرضاءه إلا عبر وساطتها (( الروحية )) و(( المقدسة )) , وهذا كان يعني بالضرورة تشطيراً للهوية البشرية الموحدة واستبدالها بهويات ميتافيزيقية تلهث خلف مروياتٍ دموية عن مذاهب دينية مُتَخَّيلة تمتلك كلٌّ منها (( شرعية )) الوجود والبقاء لوحدها.
يوصل الشعر فكرة الرثاثة بشكل أكثر تأثيرًا ورمزية , (( وكلٌّ يدّعي الوصلَ بليلى وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا )) , يتطرق هذا البيت الى تمزّق النسيج الاجتماعي وغياب الهوية , بما يرمز إلى الأحزاب المتناحرة التي تدعي كل منها تمثيل الوطن (ليلى) , بينما الوطن نفسه لا يجد فيهم من يمثله بصدق , مما يعكس حالة التشرذم وغياب الهوية الوطنية الموحدة , أو: (( تمزّقَ الثوبُ ما بينَ الفصائلِ إذْ نسيَ الجميعُ بأنَّ الثوبَ قد يُرمى )) , في تصوير لحالة التمزق والانقسام بين الفصائل المختلفة التي تتصارع على (( الثوب )) (الوطن) , دون أن يدركوا أن هذا الصراع سيؤدي في النهاية إلى رمي الثوب كله لشدة اهترائه .
صباح الزهيري .
#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟