صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 11:15
المحور:
الادب والفن
مقامة المانديلائية :
كان النقاد والمثقفون العرب يعيبون على المستشرق الغربي برنارد لويس نظرته الاستعلائية للعالم العربي , عموماً , وحين كان يتحدث عن فشل العرب في اعتناق مفهوم الدولة الحديثة عندما يقول : (( الدولة كفكرة حديثة لا تستقيم في الثقافة العربية التقليدية )) , وإن (( المجتمعات في لحظات ضعف الدولة تتعرض للتفكك وعودة إلى الولاءات القبلية والمذهبية )) , هنا , لا يكفي أن ننتقد برنارد لويس , المطلوب تعزيز ثقافة التعايش بين أبناء الوطن , ودفعهم لتنظيم خلافاتهم , وحلها وفق قانون يقوم على العدالة والمساواة ونبذ العنف والتسلط , ومنع الاحتكام للسلاح , أو تمزيق النسيج الوطني , أو تفتيت وحدة البلاد, أو الاستقواء بالخارج ,ما يحتاج إليه كل بلد منكوب لكي ينهض ليس أن يراكم الانتصارات التي تخلّف وراءها فجائع وأحقاداً , وإنما يراكم التسامح , وهو كما يصفه غاندي , يحتاج إلى قوة : (( الضعيف لا يسامح , التسامح سمة الأقوياء )) .
برزت في عراق ما بعد عام 2003 ظاهرة فريدة يمكن تسميتها بـ (( المانديلائية المعكوسة )) , فبينما يمثل اسم نيلسون مانديلا رمزًا عالميًا للمصالحة والتسامح ونبذ الإقصاء بعد صراع مرير, يجد المرء في المشهد السياسي العراقي من ارتقوا سدة الحكم بعد الغزو يرفضون رفضًا قاطعًا أي حديث عن تجربة مماثلة , هذا الرفض ليس نابعًا من رؤية سياسية مغايرة , بل من خلو منطقهم من أي عقلانية أو تسامح , واكتفائهم بالأحقاد تجاه كل صوت ينادي بوحدة العراق وإلغاء منطق الإقصاء الذي رسخوه , وهكذا فأن الجماعة في عراق ما بعد الغزو , والذين كان يُفترض أن يكونوا بناة لدولة جديدة قائمة على مبادئ العدل والمساواة , اختاروا طريقًا مغايرًا تمامًا , لقد بنوا سلطتهم على أسس طائفية وعرقية , وعززوا الانقسامات بدلًا من رأب الصدع , وفي ظل هذا الواقع , يصبح الحديث عن (( تجربة مانديلا )) أي المصالحة الوطنية الشاملة وطي صفحة الماضي ومد اليد للجميع من أجل بناء مستقبل مشترك أشبه بالدعوة إلى المستحيل .
قضى نيلسون مانديلا 27 عاماً في السجن , كانت مليئة بالعذاب والقهر والمعاناة , لكنّ كتابه (( رحلتي الطويلة من أجل الحرية )) يصوّر لنا أن معركته الحقيقية كانت مع نفسه وليست مع سجانيه , كان عليه أن يختار , إمّا الاستمرار في خوض الصراعات الدامية بدعوى الثأر والانتقام , وسيجد أمامه أمة منكوبة مشحونة بالحزن والغضب تستعّر داخلها براكين الثورة ,أو أن يقود أمته نحو الخلاص , فهو يقول : (( عند خروجي من السجن أدركتُ أنه إن لم أترك كراهيتي خلفي فإنني سأظل سجيناً )) , لأن السجن الحقيقي ليس مجرد جدران وحراس , ولكنه الكراهية التي تستعر في قلب الإنسان وتحوله وحشاً.
تتجلى (( المانديلائية المعكوسة )) في العراق بشكل واضح في رفض أي مبادرات حقيقية للمصالحة الوطنية , وتغليب الخطاب التحريضي الذي يؤجج الكراهية ويغذي الانقسامات , فكل من يدعو إلى نبذ الطائفية , أو يعلي من شأن الهوية الوطنية الجامعة , أو يسعى لإنهاء منطق المحاصصة , يُواجه بتهميش وعداء , هذا السلوك ليس إلا انعكاسًا لأحقاد متأصلة , ورغبة في الحفاظ على مكاسب السلطة التي بُنيت على أنقاض الوحدة الوطنية , ويكمن جوهر المشكلة في أن هؤلاء القادة الجدد , الذين يفترض أن يكونوا حاملي لواء التغيير, يفتقرون إلى رؤية حقيقية لمستقبل العراق الموحد , فالعقلانية تقتضي النظر إلى المصلحة الوطنية العليا , ووضع حد للانقسامات التي لا تخدم إلا أجندات ضيقة , أما التسامح , فهو حجر الزاوية في بناء مجتمع مستقر ومتماسك , يسمح بتعايش مختلف الأطياف والأيديولوجيات , لكن للأسف , غابت هذه المبادئ عن سياساتهم , وحلت محلها عقلية الإقصاء والتهميش .
تجربة نيلسون مانديلا في التعالي على الجراح وقيادة شعب ممزق ومحطم نحو التعافي والتسامح ليست مجرد قصة زعيم خرج من السجن , بل نموذج عملي لإنقاذ وطن من السقوط في دوامة الانتقام والانهيار, ولذلك أصبح مانديلا أحد أعظم الرموز العالمية في التسامح والمصالحة , وتمكّن بالصبر والجَلَدْ من تحويل مسار بلاده من الحروب المفزعة إلى دولة تنعم بالعدالة والحرية والتعايش بين أجناس كانت قبل سنوات قليلة تتطاحن فيما بينها , وأثبتت تجربة جنوب أفريقيا أنه في بناء الأوطان: (( لا غالب ولا مغلوب )) , وحين تتشكلّ الهوية الوطنية , تسقط على الفور نظرية (( الأكثرية والأقلية )) , فالجميع أبناء وطن وليسوا (( كانتونات )) متصارعة , أي انتصار يحققه أخ على أخيه هو هزيمة معنوية لكليهما , وأي طعنة يوجهها أخٌ لأخيه في وطنٍ واحد أو استدعاء الخارج للاستقواء عليه هو نكبة وطنية على الجميع , هذا النوع من الانتصار, هو انتصار وهمي , وشعور زائف بالتفوق , وهذا النوع من الانتصار الذي يقوم على إذلال الخصم أو نفي وجوده , لا يدوم , لأنه يراكم مشاعر الغضب والرغبة في الانتقام , يقول مانديلا وهو يتحدث عن الانتقال من السجن إلى السلطة في الفصل الأخير من الكتاب: (( إن قهر خصمك لا يعني أنك غلبته , بل يعني أنك أرجأت المعركة إلى وقت آخر )) .
ألقى النموذج الفريد الذي صنعه مانديلا في جنوب أفريقيا بظلاله على عموم القارة السوداء , نتذكر حروب الإبادة بين «الهوتو والتوتسي» في رواندا وبوروندي , وبلغت ذروتها في مجزرة رواندا عام 1994 التي راح ضحيتها ما يقارب مليون إنسان , لكن هذا المزيج المتفجر من القبائل المتناحرة تمكنّ لاحقاً أن يحقق السلام النسبي , ويخطو بجدية نحو الاستقرار والتنمية , سيراليون, وليبيريا , وموزمبيق , وأنغولا كلها شهدت حروباً أهلية مدمّرة خلّفت مئات الآلاف من القتلى وملايين المشردين والمعوقين , ولكنها اليوم دول مختلفة تماماً عن صورتها قبل أقلّ من عقدين من الزمن , ولذا فإن السبيل الوحيد لإخراج العراق من دوامة الأزمات التي يعيشها هو التخلي عن (( المانديلائية المعكوسة )) والتوجه نحو نموذج حقيقي للمصالحة , يتطلب ذلك قادة يمتلكون الشجاعة للتسامح , والعقلانية للتخطيط لمستقبل أفضل , والإرادة لتوحيد الصفوف , فكما أن نيلسون مانديلا قد أثبت أن التسامح قوة لا تضاهيها قوة , يجب على قادة العراق أن يدركوا أن بناء دولة قوية وموحدة لا يمكن أن يتم إلا بنبذ الأحقاد والعمل المشترك من أجل جميع أبناء الوطن .
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟