أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الرويبضة .















المزيد.....

مقامة الرويبضة .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 11:13
المحور: الادب والفن
    


مقامة الرويبضة :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : (( سيأتي على الناس سنوات خدّاعات , يُصَدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق , ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين , وينطق فيها الرويبضة )) , قيل وما الرويبضة يا رسول الله ؟ قال : (( الرجل التافه يتكلم في أمر العامة )) , وفي لفظ عند أحمد (( الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ )) , وفي رواية : (( الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة )) , يصف الرسول ﷺ الزمن الذي يصول فيه الرويبضة بالسنوات الخدّاعات , ذلك لأن الأمور تسير خلاف القاعدة , فالصادق يُكذَب والكاذب يُصدَّق , والأمين يُخَون والخائن يُؤتًمن , وينطبق حديث الرويبضة على التافهين الذين لا يملكون أي خلفية عن العلوم العقلية ولا الإنسانية , ولا أي قابلية للتجديد ولا يعرفون المصالح , إنّما حفظوا مذهباً قديماً ثم خرجوا يرددونه في الناس بلا بصيرة يزعمون أنّه العلم , فهل رأيتم أتفه منهم يتحدث في شأن العامة .

ويُعرف الرويبضة بأنه الإنسان العاجز الذي رَبَض عن معالي الأُمور, أي قعد عن طلبها , وهي تصغيرٌ لكلمة رابضة , وقيل : هو الرجل الذي لا يُنظرُ إليه , ولا قيمة له , ويتكلّم في ما شاء من أمور العامة , ويرفع من يشاء من الناس , ويحطّ من يشاء منهم , ويحوّل الرأي العام بما يتناسب مع جهله وهواه , ومما ورد في صفات الرويبضة : الفسق , ومع ذلك يتكلّم في أمر الجماعة والعامة مع عدم قُدرته على ذلك , أتفه وأصغر الناس وأخسّهم , ضعف في العلم والقدْر والعقل , السُّعادة بالمناصب المال وكثرة الكلام , والتوسّع فيه من غير احتياطٍ أو احتراز , حتى إن النبيّ (ص) قال: (( وإنَّ أبغَضَكم إليَّ وأبعَدَكم منِّي في الآخرةِ أسوَؤُكم أخلاقًا المُتشدِّقونَ المُتفيهقونَ الثَّرثارونَ )) .

هذا حديث صادر عن نبي أمي منذ خمسة عشر قرنا (15) لم يدخل لا مدرسة ولم يلتحق بجامعة , وبعد كل هذه السنين يصدر (( آلان دونو)) وهو دكتور في الفلسفة من جامعة باريس وأستاذ محاضر في علم الاجتماع بجامعة (( كيبك )) التابعة لقسم العلوم السياسية , كتابه (( نظام التفاهة La médiocratie سنة 2015 , وفي الحقيقة ما قاله النبي محمد صلى الله عليه وسلم في سطرين حاول الكاتب شرحه في 366 صفحة (بمعدل 8400 سطر تقريبا) , فأنت تقلب صفحات كتاب (( نظام التفاهة )) وكأنك تقرأ (( حديث الرويبضة )) بتفصيل , حيث يتمثل (( نظام التفاهة )) في أن النظام السائد أدّى إلى سيطرة التافهين على مواقع أساسية من الخريطة الاجتماعية , يكفي أن تنظر حولك , يقول (( آلان دونو)) , لترى هؤلاء وقد اخترقوا السياسة والإعلام والتعليم والفن , وهو واقع يصفه بتسيّد شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية , لكن (( دونو)) يقف على معنى فريد لكلمة Mediocre التي باتت تفيد ما هو سيئ سليلة جذر يشير إلى معاني التوسّط , وبذلك فإن المتواضع والتافه هو المتوسط , أي ذلك الذي لا يلمع في أي مجال , بعبارة شائعة اليوم , هو ذلك الذي هو بلا موهبة وبلا مهارات.

يشرح (( دونو )) كيف جرى هزّ معايير الكفاءة , إذ يشير إلى أن تحصيل التافهين للمواقع لأي سبب من الأسباب يجعلهم يبحثون عن أشخاص تافهين مثلهم لتحصين موقعهم , وعلى أساس هذا التخوّف على الموقع تُبنى بالتدريج شبكة من التافهين تُحصّن فيها كل نقطة بقية النقاط في الخريطة الاجتماعية , ومن ثمّ إسباغ التفاهة على كل شيء , ويضرب المؤلف هنا أمثلة شتّى من التربية إلى الاقتصاد , مصداقا لقول الشاعر:
(( خنافسُ الأرض تجـري في أعِنَّتِها * * * وسـابحُ الخيل مربوطٌ إلى الوتـدِ
وأكرمُ الأُسْدِ محبـوسٌ ومُضطهدٌ * * * وأحقرُ الدودِ يسعى غير مضطهـدِ
وأتفهُ الناس يقضي في مصالحهمْ * * * حكمَ الرويبضـةِ المذكورِ في السنَدِ )) .

الحديث الشريف عن (( زمن الرويبضة )) يصف سنوات عصيبة تنقلب فيها الموازين وتتبدل القيم , حيث يرتفع شأن التافه وينحط قدر الأمين والصادق , هذا الوصف , وإن كان نبوءة شاملة لأزمان قادمة , إلا أنه يجد صدىً مؤلمًا في واقع العراق بعد عام 2003, لقد شهد العراق تحولات جذرية بعد الاحتلال , أدت إلى فوضى عارمة في كثير من الأحيان , وتآكل في بنية الدولة والمجتمع , ويمكننا أن نلمس ملامح (( سنوات خداعات )) في عدة جوانب , كأنقلاب المفاهيم والقيمفقد اختلط الحابل بالنابل في العراق , ومن كان يتبوأ مكانة اجتماعية أو سياسية مرموقة بناءً على خبرته أو كفاءته , قد يُهمّش أو يُتهم بالولاء للنظام السابق, بينما قد يبرز أشخاص بلا خلفية أو خبرة حقيقية , مستغلين الوضع الجديد أو مستندين إلى ولاءات طائفية أو حزبية , هذا الوضع يصدق فيه وصف (( يُصَدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق , ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين )) .

لعل أبرز تجليات هذا الحديث في العراق هو صعود (( الرويبضة )) ففي غياب المؤسسات الرصينة وضعف سلطة القانون , وجد الكثير من الأشخاص (( التَافهين )) أو غير المؤهلين , الفرصة للبروز والتحدث في (( أمر العامة )) , هؤلاء قد لا يمتلكون رؤى حقيقية أو حلولاً واقعية , ولكنهم يستغلون الإعلام أو المنابر السياسية لبث الأكاذيب والشائعات أو اتخاذ قرارات مصيرية تضر بالمصلحة العامة , يمكن رؤية هذا في الخطاب الطائفي والتحريضي, وفي انتشار الفساد الإداري والمالي الذي يمارسه أفراد لا يمتلكون أي مؤهلات سوى الولاءات الضيقة , وأصبحت (( السنوات الخداعات )) واقعًا مريرًا في العراق , حيث غالبًا ما يتم تضليل الرأي العام بالأكاذيب والوعود الزائفة , فبدلاً من التركيز على بناء الدولة وتحقيق التنمية , يغرق المجتمع في صراعات جانبية أو قضايا هامشية تُبعده عن التحديات الحقيقية, وقد يكون هذا التضليل ممنهجًا من قبل بعض الجهات التي تسعى للحفاظ على مصالحها على حساب استقرار العراق وتقدمه.

إن واقع العراق بعد 2003 , بمشاكله المتراكمة وفساده المستشري , يمثل للأسف تجسيدًا حيًا لكثير مما ورد في حديث (( زمن الرويبضة )) , فالمشهد السياسي والاجتماعي غالبًا ما يشهد تقديم غير الأكفاء , وإقصاء أصحاب الخبرة والكفاءة , وغلبة المصالح الشخصية على المصالح الوطنية , ولكن , هل هذا هو قدر العراق؟ الحديث الشريف هو تحذير, وليس حكمًا نهائيًا , فإدراكنا لهذا الواقع المرير هو الخطوة الأولى نحو تغييره , لا يزال هناك أمل في أن يتمكن أبناء العراق المخلصين من إعادة ترتيب الأوراق , وإعلاء صوت الحكمة والعقل , وتهميش (( الرويبضة )) من أجل بناء مستقبل أفضل .

صباح الزهيري .



#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة عودك رنان .
- مقامة الفرج بعد الشدة .
- مقامة لا يختبئان .
- مقامة المانديلائية .
- مقامة ألأستثمار .
- مقامة الهُبْرِيس .
- مقامة الرثاثة .
- مقامة الشامات .
- مقامة معطف ديدرو .
- مقامة حين يرتبك المعنى .
- مقامة جدل اللغة .
- مقامة الشخة .
- مقامة الشطح .
- مقامة الخرق .
- مقامة طِشّاري .
- مقامة الباينباغ .
- مقامة مربع المجون .
- مقامة النوم .
- مقامة السكارى .
- مقامة الكتابة .


المزيد.....




- فلسفة الذم والشتائم في الأدب.. كيف تحوّل الذم إلى غرض شعري؟ ...
- فيديو.. أول ظهور للفنانة فيروز في مراسم تشييع زياد الرحباني ...
- التجويع يواصل الفتك بسكان غزة ومنظمات دولية تحذر من -مسرحية ...
- -أصداء الطوفان-.. حين تصير الكلمة بندقية
- رفاعة الطهطاوي (1801-1873): مُعلّم الأمة وعميد النهضة
- فنانون بلجيكيون: لا نريد أن نربي أطفالنا في عالم يموت فيه ال ...
- المسرح الجامعي بالدار البيضاء.. ذاكرة تهجس بالحداثة والتجريب ...
- حماس: نرفض المسرحيات الهزلية التي تسمى عمليات الإنزال الجوي ...
- حكومة غزة: المجاعة تزداد شراسة وما يجري مسرحية هزلية
- موسيقى زياد الرحباني.. حين تتحول النغمات إلى منشور سياسي غاض ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الرويبضة .