صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 22:46
المحور:
الادب والفن
مقامة عودك رنان :
(( ضلك دق يا علي , عودك رنان )) .
خسر لبنان والعالم العربي أحد أبرز أعمدة الفن النقدي الملتزم , ورائدا في المسرح والموسيقى , وكاتبا جسد هموم الناس وآمالهم بكلمة صادقة ولحن لا ينسى , زياد , نجل أيقونة الغناء العربي فيروز , والملحن الراحل عاصي الرحباني , نشأ في بيئة فنية استثنائية , لكنه اختار طريقه الخاص , مبتعدا عن الأطر التقليدية , ليرسم لنفسه مسارا نقديا وفكريا جريئا , يتقاطع فيه الفن مع السياسة , والموسيقى مع الموقف , والكلمة مع الضمير , وقد نعى وزير الثقافة اللبناني الدكتور غسان سلامة على حسابه عبر منصة اكس الفنان زياد الرحباني بكلمات مؤثرة , (( كنا نخاف من هذا اليوم , لأننا كنا نعلم تفاقم حالته الصحية وتضاؤل رغبته في المعالجة , وتحولت الخطط لمداواته في لبنان او في الخارج الى مجرد افكار بالية , لأن زيادا لم يعد يجد القدرة على تصور العلاج والعمليات التي يقتضيها, رحم الله رحبانيا مبدعا سنبكيه بينما نردد اغنيات له لن تموت )) , وكتب الرئيس اللبناني جوزيف عون على منصة إكس : (( زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان , بل كان حالة فكرية وثقافية متكاملة , وأكثر.. كان ضميرا حيا , وصوتا متمردا على الظلم , ومرآة صادقة )) , أما رئيس الوزراء نواف سلام , فرثاه قائلا: (( بغياب زياد الرحباني , يفقد لبنان فنانا مبدعا استثنائيا وصوتا حرا ظل وفيا لقيم العدالة والكرامة , زياد جسد التزاما عميقا بقضايا الإنسان والوطن , ومن على خشبة المسرح , وفي الموسيقى والكلمة , قال ما لم يجرؤ كثيرون على قوله , ولامس آمال اللبنانيين وآلامهم على مدى عقود)) .
تقول سلوى زكو : (( لم افهمه كما ينبغي , انتمي لجيل تربى على سرديات الثلاثة الكبار عاصي ومنصور وفيروز, سرديات فيها الكثير من الاطمئنان الى ان الحياة رخية وهادئة , والقرية اروع مكان في الوجود , ثم جاء هذا الزياد ليقول لنا الفقر كافر , والمرض كافر والذل كافر , في المشهد الرحباني ترى الفلاح سعيدا موفور العافية تغني له فيروز وهو يرقص الدبكة’رومانسية تنتمي الى زمن مضى وانقضى , عاش زياد زمن الحرب الاهلية وسطوة السلاح وخراب المدن والنفوس , لم تعد القرية كما كانت ولم يعد اهلها يرقصون الدبكة بل اصبحوا يحملون السلاح , لم اتقبل زيادا وهو ينزل فيروز عن عرشها الرومانسي , ليستنطقها كلاما يشبه كلامنا اليومي حتى اصبحت (الملكة) تشبهني هي التي كانت تسطع مثل ماسة نادرة , راح زياد رحباني بعد ان وضع بصمته على زمنه القاسي , لعل مثل هذا الكلام لا يقال في المراثي , لكني كنت اريد ان اصارحكم بما في نفسي )) .
رسالة واحدة لا تكفي فيما بيننا وما ليس بيننا , أنت تشبه لبنان , بل ربما أنت أكثر من يشبهه , أنت مغارة جعيتة , يعتقد كثير من اللبنانيين أنك ابن لحظة بلدك ثانية بثانية أو يريدونك هكذا , وعند البعض ابن اللحظة التي تمتد في الزمن , لأنها غنت واجترحت الموسيقى والكتابة لكل حجر في بلدك , لكل ثائر ومُهمش ومُستضعف في الكون , حسب ما تعتقد أنت , وجماعتك ألأمميون , وفي الساعة التي ستُقدم فيها الأمم ما أبدعته في الكون , في اللحظة ذاتها التي يتقدم فيها لبنان ليضع أمام الجمع ما صنعه في الموسيقى والغناء , سيفرد لبنان ثلاثة أذرع , في اليمنى فيلمون وهبي وفي الكف الوسطى يصدح وديع الصافي ويتألق صوت صباح مضاهيًا العالم ببهجته , أمامهما تقف السيدة فيروز تغني(( سلم لي عليه )) , وحين يعتقد الجمع أن العرض انتهى سوف تهيج إلى أسماعهم أصوات قادمة من بعيد , يحدس كل من حضر العرض أنها موسيقاك , بعدها يظهر وجهك الساخر من كل ما حدث , في هذه اللحظة التي تُقدم فيها الأمم ما فعلت , ستظهر أنت باعتبارك صانع الموسيقى القادمة من المستقبل.
((عودك رنان )) أغنية كتب كلماتها زياد رحباني وغنتها أيقونة لبنان فيروز عام 1985م , والطريف فيها أن المذيعة المصرية منى الشادلي عندما التقت رحباني وسألته في أحد برامجها عن الأغنية أجاب بأنها أغنية طائفية , مؤشرا على مقطع فيها يقول (( ظلك دق يا علي عودك رنان )) , هذه الأغنية الرائعة والمثيرة هل يمكن اسقاطها على حالنا العربي اليوم ؟ خاصة مع بروز اسطوانات بأشكال متنوعة ومسمومة , فالتقسيمات والمسميات في زمن الفوضى العربية لا حصر لها , والتطاير داخل البيت الواحد أسكنه العفاريت , وبات الوسيط يكرر ذاته ويواصل مشوراه دون نتيجة , لكن السؤال , هل العودة ممكنة للوطن بعد هذا الجرح الغائر في جسد الأمة ؟ وهل الرنة ما زالت مسموعة؟
علي كما يورد رحباني يشير إلى عمرو موسى آمين عام الجامعة العربية الأسبق , وكان يعود ويكرر زياراته إلى لبنان دون نتيجة , ويردد عبارته المشهورة (( انه يقف على مسافة واحدة من الجميع )) , فالتقسيم انذاك كان في لبنان مسلما - مسيحيا , وليس شيعيا-سنيا , وكلمة علي فسرها كثيرون في غير موقعها(في إشارة إلى الشيعة ) , لكن الرمزية فيها أن الفن حي باق , وأن ألناس وخلافاتها واختلافاتها تتغير وتتبدل , وأن الاسقاطات التي ارادها كانت انتقاده لسنوات الحرب الطويلة وما حل بلبنان وشعبه , وأن ذات الاسطوانة المشروخة مكررة على السنة كبار المسؤولين وفي الشارع , والفارق الزمني هو أن الحرب الأهلية اللبنانية وضعت اوزارها في 1989م باتفاق الطائف , وانتقل الناس إلى لملمة شملهم بعد سنوات من الضياع , فالاغنية أنزلت فيروز من ايقونتها إلى الشارع بين ألناس وهو يعني كما يقول رحباني أن العودة للوطن بعد الضياع أمر لا مفر منه.
زياد , ربما عرفت أن عمار الشريعي حين كان يقدم أغنية أو مقطوعة لك يقول: الآن سوف نسمع الشرقي الذي ليس غربيًا , والغربي الذي ليس شرقيًا , (( زياد ده إيه , زياد ده ابن مين , ثم يسبك من فرط اعترافه بعبقريتك )) , وإلى جانب المسرح , كان زياد ملحنا ومؤلفا موسيقيا لامعا , لحن عددا من أشهر أغاني والدته فيروز , مثل (( سألوني الناس )) , (( كيفك إنت )) , (( صباح ومسا )) , (( عودك رنان )) , و(( البوسطة )) , وهي أغان لا تزال تردد حتى اليوم في الذاكرة الجمعية للشارع العربي , كما أصدر عدة ألبومات موسيقية , أبرزها (( أنا مش كافر )) , (( إلى عاصي )) , و(( مونودوز )) , وتميزت موسيقاه بمزج فريد بين الجاز والموسيقى الشرقية , مما جعله أحد المجددين في المشهد الموسيقي العربي , ما فعله زياد هو انضاج عبقريته في إقامة مزيج مدهش ومستحيل من الشيخ أمام والرحابنة , اشعر بفيروز , وهي في ربيعها الأخير من العمر , ان تعيش الحزن والأسى , مع ابن اخر معاق , ومع الزمن والعمر كيف هي حالتها النفسية اليوم , الله يكون في عونها , أقسى رحيل حين يدفن الاباء ابناءهم .
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟