أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة سيدوري .














المزيد.....

مقامة سيدوري .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8436 - 2025 / 8 / 16 - 15:36
المحور: الادب والفن
    


تتجلى فلسفة الحياة في أقدم حكاية إنسانية , حيث تعتبر ملحمة جلجامش , أقدم قصة مكتوبة في تاريخ البشرية , كنزًا أدبيًا وفلسفيًا لا يفنى , وعلى الرغم من أن الملحمة تتناول رحلة ملك أوروك العظيم جلجامش بحثًا عن الخلود بعد أن هزّه موت صديقه الحميم أنكيدو , فإنّ الكثير من النقاد والأدباء يجمعون على أن جوهرها الحقيقي يكمن في كلمات امرأة عادية , هي سيدوري , وفي رحلته المضنية بحثًا عن الحقيقة وسر الحياة الأبدية , يلتقي جلجامش بسيدوري , صاحبة حانة بسيطة , تنظر إليه باستغراب , وترى فيه آثار التعب والضياع , وحين يروي لها قصته وما يعانيه من ألم الفقد , تجيبه سيدوري بكلمات تحمل في طياتها حكمة عميقة , ببرود وواقعية , تخبره أن الموت قدر لا مفر منه , وأنه حقيقة طبيعية لا يمكن لأحد تغييرها.

تدور حكمة سيدوري , كما وردت في ملحمة جلجامش , حول فكرة أن الحياة قصيرة وأن الموت حق على الجميع , وأن السعي وراء الخلود أمر مستحيل للبشر , تنصح سيدوري , التي كانت صاحبة حانة , جلجامش بالاستمتاع بالحياة وملء بطنه بالطعام والشراب والاحتفال مع زوجته وأولاده , بدلاً من السعي وراء الخلود, وترى سيدوري أن الخلود هو حكر على الآلهة , وأن محاولة البشر الوصول إليه هي محاولة فاشلة, فنجد شخصية سيدوري الأنثى ذات الحكمة ألألهية , تحاول ثني گلگامش عن سعيه للخلود , وتحثه على الاكتفاء بمتع الحياة , فتقول : (( أيها الملك العظيم , تذكر أن الآلهة فقط هي التي تبقى في السهر الأبدي اما البشر فانهم يأتون ثم يذهبون , هذه هي الطريقة التي حُدد بها القدر , على الواح القدر, لذلك سوف تغادر يومًا ما , ولكن حتى ذلك اليوم البعيد , عليك ان تغني و ترقص , تناول طعامك الدافئ المطبوخ , و اباريق البيرة الباردة , اعتز بأطفالك الذين يمنحهم حبك الحياة , اغتسل من أوساخ الحياة , في المياه الدافئة النقية , اقضي الوقت في فرحٍ مع زوجتك المختارة , فعلى الواح القدر , قدرك محتوم , لذلك عليك ان تستمتع بهذه الملذات القصيرة , لايامك القصيرة )) , ومن الامور المثيرة للاهتمام انها حثت گلگامش على التخلي عن الحداد و الابتعاد عن طقوس الحداد والحزن الحادة والعودة إلى الحياة الطبيعية .

أعتبرالكثير من النقاد نصيحة سيدوري هي لب ملحمة جلجامش , وقد استخدمها الكثير من الأدباء العالميين في مؤلفاتهم , للتعبير عن ابداع سيدوري وحكمتها : ففي هذه الملحمة المكتوبة وهي الأقدم في تاريخ البشرية , يزهد فيها ملك أوروك (العراق) العظيم جلجامش بالحياة بعد موت صديقه المقرب أنكيدو, فيقرر أن يطوف بالبلاد ويسافر لأقصى الأماكن بحثاً عن الحقيقة و سر الخلود , فيلتقي في طريق رحلته بإمرأة اسمها (( سيدوري)) تمتلك حانة , فتنظر اليه باستغراب وتسأله : ما حالك يارجل ولماذا تبدو عليك علامات الأرق والشحوب والتسول ؟ فحينما يخبرها جلجامش بقصته تجيبه بكل تعجب وبرود :(( وما الغريب في ان يموت ؟ كلنا سنموت في النهاية , هذا أمر طبيعي , ولا احد يستطيع ان يغير هذه الحقيقة )) , ومن ثم تنصحه نصيحة اصبحت شهيرة جدا وهي: (( إملأ كرشك, تزوج و أحب زوجتك , أنجب الأولاد وكن أباً جيداً, امرح و ارقص وغني بأقصى ما تستطيع , واترك هذه الخيالات من البحث عن الحقيقة والخلود وغيرها فلا حقيقة سوى هذه الحقيقة )) .

تسدي سيدوري نصيحة لكلكامش , هي أقرب ما تكون إلى فلسفة حياة كاملة , نصيحتها لا تدعوه إلى الاستسلام , بل إلى التمسك بالحياة ذاتها والاحتفاء بها , هذه الكلمات البسيطة حملت معها إبداعًا فكريًا لم يقتصر تأثيره على الأدب القديم , بل تجاوز ذلك ليلامس العديد من المؤلفات العالمية الحديثة , فقد استخدمها الكثير من الأدباء للتعبير عن حكمتها في مواجهة الموت والزوال , إنها دعوة للعيش بوعي , والاستمتاع باللحظة الحاضرة , وتقدير المتع البسيطة التي تشكل نسيج حياتنا , فقد كتبت الدكتورة الخالدة نوال السعداوي : (( لقد انتصرت على كل من الحياة والموت , لأننى لم أعد أرغب فى العيش , ولم أعد أخشى الموت )) , ويتطرق محمود درويش في قصيدة (( جدارية )) لمحلمة جلجامش أيضا ويعبر عن نصيحة سيدوري بشكل ابداعي جدا هو الأجمل ربما في الأدب فيقول: (( عش ليومك لا لحلمك...كل شيء زائلٌ.. فاحذر غداً وعش الحياة الآن في امرأة تحبك..عش لجسمك لا لوهمك.. وانتظر ولداً سيحمل عنك روحك.. فالخلود هو التناسل في الوجود..وكلّ شيءٍ باطلٌ أو زائل... أو زائل أو باطلٌ.. )) .

يمكننا أن نجد صدىً لفلسفة سيدوري في بعض الأشعار والحِكم من العصور القديمة , وإن لم تكن مطابقة تمامًا لوصيتها , هذه الأمثلة تُظهر أن فكرة الاستمتاع بالحياة قبل فوات الأوان كانت فكرة منتشرة في العديد من الحضارات ,ففي الشعر الجاهلي , نجد شعراء يصورون تقلبات الحياة وفناء الإنسان , ولكنهم في الوقت نفسه يدعون إلى الاستمتاع باللحظة , مثل قول عنترة بن شداد : (( وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأَظَلُّهُ حَتَّى أَنَالَ كَرِيمَ الْمَطْعَمِ )) , وعلى الرغم من أن البيت يتحدث عن الصبر والمثابرة , إلا أن الشعر الجاهلي عموماً كان يقدّر لحظات الفرح والكرم والشجاعة , مع إدراك أن الحياة قصيرة , ومثل (( اليوم خمر وغداً أمر)) , قاله الشاعر الجاهلي امرؤ القيس بعد مقتل والده الملك حجر, يعبر المثل عن حالة اللهو والسكر التي كان يعيشها امرؤ القيس قبل سماعه خبر مقتل أبيه , حيث كان يلهو مع أصحابه ويشرب الخمر, وعندما بلغه خبر مقتل أبيه , قال (( ضيّعني أبي صغيراً , وحملني دمه كبيراً , لا صحو اليوم ولا سكر غداً , اليوم خمر وغداً أمر)) , وفي الشعر اللاتيني , نجد فكرة مشابهة جداً تُعرف بـ (( Carpe Diem )) , وتعني (( اغتنم اليوم )) , أشهر من استخدمها هو الشاعر الروماني هوراس في قصائده فهو يقول : Carpe diem, quam minimum credula postero (( اغتنم اليوم , ولا تثق بالغد )) .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة الكهرباء .
- مقامة البيلسان .
- مقامة العميان .
- مقامة الحنين .
- مقامة الفرح .
- مقامة عبثية .
- مقامة ألأستلال .
- مقامة الأقصاء .
- مقامة الصقيع .
- مقامة الجهل ( الحفر في العقول ) .
- مقامة السفراء .
- مقامة ألأمشجي .
- مقامة الونين .
- مقامة البحث عن السعادة .
- مقامة المسكون .
- مقامة سفلة السفلة .
- مقامة نبي بني عبس .
- مقامة بوصلة لطفية الدليمي .
- مقامة الرويبضة .
- مقامة عودك رنان .


المزيد.....




- -شاعر البيت الأبيض-.. عندما يفتخر جو بايدن بأصوله الأيرلندية ...
- مطابخ فرنسا تحت المجهر.. عنصرية واعتداءات جنسية في قلب -عالم ...
- الحرب في السودان تدمر البنية الثقافية والعلمية وتلتهم عشرات ...
- إفران -جوهرة- الأطلس وبوابة السياحة الجبلية بالمغرب
- يمكنك التحدّث لا الغناء.. المشي السريع مفتاح لطول العمر
- هل يسهل الذكاء الاصطناعي دبلجة الأفلام والمسلسلات التلفزيوني ...
- فيلم جديد يرصد رحلة شنيد أوكونور واحتجاجاتها الجريئة
- وثائقي -لن نصمت-.. مقاومة تجارة السلاح البريطانية مع إسرائيل ...
- رحلة الأدب الفلسطيني: تحولات الخطاب والهوية بين الذاكرة والم ...
- ملتقى عالمي للغة العربية في معرض إسطنبول للكتاب على ضفاف الب ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة سيدوري .