أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة العميان .















المزيد.....

مقامة العميان .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 10:53
المحور: الادب والفن
    


مقامة العميان :

تعدّ قصة (( بلد العميان )) The Country of the Blind للكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز قصةً رمزيةً غنيةً بالمعاني , تصلح أن تكون مرآةً للعديد من المجتمعات , تتناول القصة حكاية رجل مبصر يُدعى نونيز, يجد نفسه فجأةً في وادٍ معزول لا يقطنه سوى العميان , في هذا الوادي , يُعتبر العمى حالةً طبيعيةً ومرغوبةً , بينما يُنظر إلى البصر على أنه خللٌ غريبٌ وخطيئةٌ لا تُغتفر , يُحاول نونيز في البداية أن يُقنع العميان بقدرته على الرؤية , وأن البصر هبةٌ يمكن أن تُفيدهم , لكنه يُواجه بالرفض والريبة , ويرى العميان أن ادّعاءه مجرد هلوسات , بل ويُعتبر سلوكه تهديدًا لنظامهم الاجتماعي القائم على العمى , وفي ذروة القصة , يُصدر قادة (( بلد العميان )) قرارًا بوجوب قلع عيني نونيز ليُصبح مثلهم , اعتقادًا منهم أن هذا هو الطريق الوحيد لشفائه واندماجه في مجتمعهم .

تتضمن القصة رمزية عميقة , حيث يمكن اعتبار (( بلد العميان )) رمزًا لأي مجتمع مغلق أو متخلف يرفض التغيير والتطور, وتبرز القصة أهمية الإدراك الحسي في فهم العالم المحيط , العمى في القصة يرمز إلى الجهل والتعصب , حيث يرفض المجتمع الأعمى فكرة البصر لأنه لم يعتد عليها , ويعكس الوادي المعزول عزلة مجتمع العميان عن العالم الخارجي , وكيف أن هذه العزلة قد تؤدي إلى تشويه الإدراك ورفض الجديد , كما يظهر الخوف من المجهول في رفض المجتمع الأعمى لفكرة البصر, إنهم يفضلون البقاء في عالمهم المألوف على المخاطرة باستكشاف الجديد , هنا يواجه نيونز خيارًا صعبًا , فإما أن يتخلى عن بصره ويتزوج من فتاة يحبها , أو يهرب من الوادي ويتركها, حيث تبرز القصة أهمية التضحية في سبيل الحقيقة.

تقول الشاعرة مي زيادة : (( لا تلمس الحق البسيط الجلي إلا النفس البصيرة الرفيعة )), ويقول ابن عطاء: (( البصر له الكشف والبصيرة لها الحكم )) , وقوله تعالى في سورة الحج : (( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)) , في بلد العُميان يُوّرَث العمى جيل بعد جيل حتى يُصبح ألبصر جريمة وإساءة لا تُغتفر لقدسية العمى فَيُحكم بقلع عينا المبصر, نيونز, الذي يدرك أنه لن يتمكن من إقناعهم , يقرر الهرب من الوادي , يواجه صعوبات كبيرة في تسلق الجبال بسبب عدم خبرته في هذا المجال , في النهاية , يتمكن من الهروب ويعود إلى العالم المبصر, رواية تعبر عن مأساة صاحب الوعي في محيط جاهل , وصاحب العقل في مجتمع مجنون , والمبصر الوحيد في بلد العميان , أن تجد أن عليك الاختيار بين قيمك التي عشت من أجلها وتربيت عليها وناضلت لتنصرها , وبين قيم المجتمع المريض الذي سيطردك إن لم تسايره ويحاربك إن لم توافقه .

يمكن إسقاط رمزية (( بلد العميان ))على الواقع العراقي بعد عام 2003 , حيث شهدت البلاد تغييرات جذرية لم تؤدِ إلى الاستقرار المنشود , هنا , يمثل (( العمى)) كل أشكال الجهل والتخلف والفساد , بينما يُمثل (( البصر)) كل الأفكار التنويرية والدعوات إلى التغيير والإصلاح , فبعد 2003 , واجه العراق تحديات كبيرة تمثلت في غياب رؤية واضحة للمستقبل , وتفشي الجهل والفوضى والفساد في مفاصل الدولة والمجتمع , لم تتمكن الأفكار والمشاريع التي تدعو إلى الحداثة والتنمية من الحصول على الدعم الكافي , بل غالبًا ما قوبلت بالرفض والعداء, وهناك العديد من أوجه التشابه التي يمكن استخلاصها , سيطرة الأفكار البالية والجاهلة , فمثلما سيطر العمى على (( بلد العميان )) وأصبح هو القاعدة التي لا يُمكن المساس بها , وسيطرت في العراق أفكار طائفية وعشائرية ومصالح ضيقة على حساب المصلحة العامة , هذه الأفكار أصبحت بمثابة (( العمى المقدس)) الذي لا يجرؤ أحد على انتقاده أو التشكيك فيه , ومثلما رُفض نونيز بسبب (( قدرته على الرؤية )) , يُواجه كل من يحاول تقديم أفكار تنويرية أو مشاريع إصلاحية حقيقية بالتشكيك والاتهام والعداء, يُنظر إلى هؤلاء (( المبصرين )) على أنهم تهديد للوضع القائم , ويتم عزلهم أو استهدافهم بكل الطرق الممكنة.

عندما قرر العميان قلع عيني نونيز, كان ذلك بمثابة الحل النهائي لإخضاعه وإجباره على التكيف مع واقعهم , وفي العراق , ظهر العنف ضد المختلف , حيث يُواجه من يُحاولون الخروج عن السائد بأشكال مختلفة من العنف اللفظي والجسدي , والاغتيالات السياسية , والتهميش الاجتماعي , والأقصاء بهدف إجبارهم على الصمت أو الانصياع للوضع القائم ,ان المغزى الأساسي الذي يمكن استخلاصُه من قصة (( بلد العميان )) هو أن الجهل قد يتحول إلى عقيدة راسخة يُدافع عنها أتباعها بعنف , وعندما تُسيطر أفكارٌ غير صالحة على مجتمع ما , فإنها تُصبح بمثابة (( الحقيقة المطلقة )) , ويُعتبر أيُّ منتقدٍ لها عدوًا يجب القضاء عليه.

معروف أن زرقاء اليمامة فتاة عربية من أهل اليمامة , عاشت قبل الإسلام وكانت مضرب المثل في حدِّة النظر, لدرجة أنها تبصر الأشياء من مسيرة ثلاثة أيام , فأنذرت قومها بأن جيوش العدو قادمة إليهم مستترة بالأشجار, فهي ترى الأشجار تتحرك , سخروا منها ولم يصدقوها واتهموها بالخرف , فتركتهم لشأنهم حتى غزاهم العدو وهم نيام وقضى عليهم , هي أيضًا قصة المبصر والعميان لكن برواية مختلفة , ولقد عبر الشاعر الراحل الكبير أمل دنقل عن هذه الفكرة في قصيدته الشهيرة (( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة )) يقصد ندم عميان البصيرة بين يدي المبصرين , ومما قاله أمل في هذه القصيدة الخالدة : (( قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ..فاتهموا عينيكِ , يا زرقاء , بالبوار, قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار..فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار , وحين فُوجئوا بحدِّ السيف : قايضوا بنا.. والتمسوا النجاةَ والفرار , ونحن جرحى القلبِ..جرحى الروحِ والفم.. لم يبق إلا الموتُ.. والحطامُ.. والدمارْ)) .

لا تتحدث الرواية عن عمى العيون , بل عن عمى النفوس والعقول والقلوب , عنالجهل الذي يحوّل الناس إلى مخلوقات حاقدة مذعنة يائسة عاجزة , وقد يلخص بيت شهير واحد من شعر المتنبي هذه القصة فيقول: (( ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ )) و او كما يقول المثل الإسباني : (( العينان لا تفيدان عقلًا أعمى )) , إن (( بلد العميان )) ليس مجرد قصة خيالية , بل هو مرآة لكل مجتمع يُفضّل البقاء في الظلام على السعي نحو النور, مجتمع يُقدّس العمى ويُحارب البصر, إنها دعوة للتأمل في كيف يمكن أن تُصبح الأفكار الخاطئة مهيمنة , وكيف يمكن أن يُصبح التنوير والإصلاح مهمةً شاقةً ومحفوفةً بالمخاطر, وفي النهاية , تتركنا القصة مع سؤال مهم : كيف يمكن لمجتمع أن يُدرك أنه يعيش في (( بلد العميان )) قبل فوات الأوان؟ وما هو الثمن الذي يجب أن يدفعه (( المبصرون )) في سبيل نشر الوعي؟

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة الحنين .
- مقامة الفرح .
- مقامة عبثية .
- مقامة ألأستلال .
- مقامة الأقصاء .
- مقامة الصقيع .
- مقامة الجهل ( الحفر في العقول ) .
- مقامة السفراء .
- مقامة ألأمشجي .
- مقامة الونين .
- مقامة البحث عن السعادة .
- مقامة المسكون .
- مقامة سفلة السفلة .
- مقامة نبي بني عبس .
- مقامة بوصلة لطفية الدليمي .
- مقامة الرويبضة .
- مقامة عودك رنان .
- مقامة الفرج بعد الشدة .
- مقامة لا يختبئان .
- مقامة المانديلائية .


المزيد.....




- مصر.. وفاة الأديب صنع الله إبراهيم عن عمر يناهز 88 عاما
- -وداعًا مؤرخ اللحظة الإنسانية-.. وفاة الأديب المصري صنع الله ...
- الحنين والهوية.. لماذا يعود الفيلم السعودي إلى الماضي؟
- -المتمرد- يطوي آخر صفحاته.. رحيل الكاتب صنع الله إبراهيم
- وفاة الكاتب المصري صنع الله إبراهيم عن 88 عاما
- وفاة الكاتب المصري صنع الله إبراهيم عن عمر 88 عاما
- وزارة الثقافة المصرية تعلن وفاة -أحد أعمدة السرد العربي المع ...
- وفاة الكاتب المصري صنع الله إبراهيم عن 88 عاما
- من السجن إلى رفض جائزة الدولة… سيرة الأديب المتمرّد صنع الله ...
- العراق يدرج موقعين في بغداد ضمن لائحة التراث العربي


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة العميان .