أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الرسيس .














المزيد.....

مقامة الرسيس .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8461 - 2025 / 9 / 10 - 22:59
المحور: الادب والفن
    


مقامة الرسيس :

يقرأ يوسف عمر مقامًا من قصيدة الحافظ إبراهيم: ((لَقَد نَصَلَ الدُجى فَمَتى تَنامُ أَهَمٌّ ذادَ نَومَكَ أَم هُيامُ , غَفا المَحزونُ وَالشاكي وَأَغفى أَخو البَلوى وَنامَ المُستَهامُ , وَأَنتَ تُقَلِّبُ الكَفَّينِ آناً وَآوِنَةً يُقَلِّبُكَ السَقامُ )) , إلى أن يصل إلى البيت : (( بِرَبِّكَ هَل رَجَعتَ إِلى رَسيسٍ مِنَ الذِكرى وَهَل رَجَعَ الغَرامُ؟)). هنا توقفت عند كلمة (( رسيس )) , فوجدت أنها كلمة عربية ذات معانٍ متعددة , أصلها عميق ومرتبط بتاريخ اللغة العربية وشعرها القديم.

الرسيس: من البئر إلى القلب , في اللغة , كلمة (( الرسيس)) مشتقة من الجذر (ر. س. س) , وأكثر معاني هذا الجذر تحيل على الدفن والطمر وإخفاء شيء تحت الأرض , فيقال (( رسَّ الميت )) أي دفنه , و(( رسَّ البئر)) أي حفرها, ومن هنا جاءت تسمية (( الرس)) على البئر التي لم تُبنَ جدرانها بعد , وفي القرآن الكريم , ورد هذا المعنى في قوله تعالى في سورة ق: ﴿( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ )﴾ , وقد اختلف المفسرون في معنى (( أصحاب الرس )) فقال بعضهم إنهم قوم دفنوا نبيهم في بئر, أي (( رسّوه)) حياً , بينما قال آخرون إنهم أصحاب الأخدود الذين حفروا خندقاً لدفن المؤمنين أحياء فيه, وهذا المعنى العميق للدفن والإخفاء هو ما يربط بين معاني الكلمة المختلفة فالرسيس هو كل ما أُخفي على كل مطلع , فلا يعلم أمره إلا ثلاثة : من دفنه , ومن سيجده , وإلهه.

انطلاقاً من معنى الدفن والإخفاء، تطورت معاني الكلمة لتصف ما يتبقى من أثر الشيء أو بقيته. فكما يدفن الشيء في الأرض , يبقى أثره في الروح , فرسيس الحمى: هو أول مسّ الحمى وبدؤها الذي يؤذن بقدومها , ورسيس الحزن: هو ما يتبقى من أثره الخفي في النفس , اما رسيس الهوى: هو بقية الحب وأثره في القلب , وهو ما يخفيه العاشق ولا يعلم به أحد إلا هو , وهذا المعنى الأخير هو ما ذكره الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني في قوله : ((إِذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ/ رَسِيسُ الهَوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبرَحُ)) , أي أن آثار حب (( ميّة )) في نفسه لا تزول , حتى وإن ابتعدت عن ناظريه , كما أن (( الرسيس)) يشير أيضاً إلى الشيء الثابت الذي لزم مكانه , والشخص الفطن العاقل , والعلامة التي توضع على الشيء , وفي كل هذه المعاني , يبقى المعنى الأصيل للكلمة هو ما كان خفياً أو مدفوناً.

لم يقتصر استخدام الكلمة على المعنى المجازي فقط , بل ظهرت في الشعر الجاهلي كاسم لمكان , كما في معلقة زهير بن أبي سلمى : (( بَكَرْنَ بُكُورًا واسْتَحَرْنَ بِسُحْــــرَةٍ فَهُنَّ وَوادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَــمِ )) : حيث يصف الشاعر الإبل التي لا تضل طريقها إلى وادي الرس , وكأنها يد تتجه مباشرة إلى الفم , و (( لِمَنْ طَلَلٌ كَالوَحْيِ عافَ مَنازِلُه عَفَا الرَّسُّ مِنها فَالرَّسِيسُ فَعَاقِلُه )) : هنا يصف زهير بقايا الديار, ويذكر (( الرس)) و((الرسيس)) كأماكن متعاقبة تظهر وتختفي , وكأنها تصوير سينمائي لآثار الديار التي غارت في الأرض.

الخلاصة إن الرسيس في كل معانيه هو ذلك الأثر الخفي الذي يظل قائماً وإن اختفى , سواء كان حباً مدفوناً في القلب , أو مرضاً كامناً في الجسم , أو أثراً لحضارة دُفنت في الأرض , هو ذلك الشعور الدفين الذي لا يزول , كبقية البئر التي حُفرت عميقاً , أو كبقية الحب الذي ظل راسخاً في القلب , فـ(( رسيس الهوى )) , هو كـ(( رسيس الماء )) غير أن ماءه تبخّر وبقيت آثاره تتخفى.

-صباح الزهيري.



#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة لحن القول .
- مقامة في مسار التاريخ ومآلاته .
- مقامة محضرون .
- مقامة الثلاجين .
- مقامة ألأكتظاظ .
- مقامة العراق: مهد الأديان واللغات المنسي؟
- مقامة مرّة ومرّة .
- مقامة الغيرة .
- مقامة دروب المعنى .
- مقامة العثرات .
- مقامة إدارة الفئران: استعارة لحال العراق بعد 2003.
- مقامة وشالة العمر .
- مقامة ياريحان .
- مقامة الحر العراقي .
- مقامة البجعة السوداء .
- مقامة يسار جديد ؟
- مقامة الأنتاج .
- مقامة الأغتراب .
- مقامة المجال الحيوي .
- مقامة الهايكو و الهايبون : رحلة الأدب الياباني إلى العالم ال ...


المزيد.....




- آنا وينتور تدلي برأيها الحقيقي في فيلم -الشيطان يرتدي برادا- ...
- فاطمة الشقراء... من كازان إلى القاهرة
- هل يعود مسلسل (عدنان ولينا) من جديد؟!
- فيلم -متلبسا بالسرقة-.. دارين آرنوفسكي يجرب حظه في الكوميديا ...
- طالبان وتقنين الشعر.. بين الإبداع والرقابة
- خطأ بالترجمة يسبب أزمة لإنتر ميلان ومهاجمه مارتينيز
- فيلم -هند رجب- صرخة ضمير مدويّة قد تحرك العالم لوقف الحرب عل ...
- خالد كمال درويش: والآن، من يستقبلنا بابتسامته الملازمة!
- فنانون عالميون يتعهدون بمقاطعة مؤسسات إسرائيل السينمائية بسب ...
- الترجمة بين الثقافة والتاريخ في المعهد الثقافي الفرنسي


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الرسيس .