مقامة فن الصياغة : الوافي بوفيات الصفدي مثلا .

صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 19:12
المحور: الادب والفن
    

يُعد صلاح الدين الصفدي ( ت. 764 هـ / 1363 م) من أبرز المؤرخين والأدباء الموسوعيين في العصر المملوكي , وكتابه (( الوافي بالوفيات)) هو مرجع لا غنى عنه في علم التراجم , وقد اشتهر الصفدي بأسلوبه الموجز والدقيق في ذكر بيانات المترجَم له , خاصة في التراجم القصيرة التي اقتصر فيها على الأهم , وهذا ما جعله مصدرًا موثوقًا وسهل التناول في بعض الأحيان , وهو المؤرخ الموسوعي (696 - 764 هـ) خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي, صلاح الدين أبو الصفاء , أديب ومؤرخ وشاعر, ولد في صفد بفلسطين وإليها نُسب , كان له دور ديواني (وظيفي) كبير, بالإضافة إلى شغفه بالعلم والتصنيف , وقد كتب بخطه مئات المجلدات وترك ما يزيد عن خمسين مؤلفًا , ومن أشهر أعماله (( الوافي بالوفيات )) , وهو أضخم مؤلفاته في التراجم , يضم أكثر من أربعة عشر ألف ترجمة , مرتبة على حروف المعجم , ويُعتبر سجلًا حافلًا لشخصيات من مختلف طبقات المجتمع , من خلفاء وعلماء وشعراء وحكماء.

منهجه في التراجم : تميز الصفدي بـ: ( الموسوعية ): حيث لم يقتصر على فئة معينة , بل شمل جميع ألوان الطيف الاجتماعي والعلمي , و( الدقة في التوثيق ) حيث كان حريصًا على ذكر اسم العلم ونسبه , وبلدته ولقبه , و ( الاقتصاد في التراجم القصيرة ) ففي بعض التراجم خاصة التي ليس فيها إطالة شعرية أو حوادث مفصلة , كان يوجز الترجمة ليقتصر على البيانات الأساسية التي لا تُعرف إلا منه أحيانًا , وهي الصيغة التي تكون جملة مركزة تحمل اسم الشخص وصفته وتاريخ وفاته , أذ يلجأ الصفدي إلى صياغة موجزة وبليغة , يجمع فيها الاسم والصفة وتاريخ الوفاة بجملة واحدة , وهذا ما يبرز مهارته في لغة التراجم .

فيما يلي أمثلة على هذا النوع من الإيجاز المشهور به والتي تجاوزت في الوافي بالوفيات 14,000 ترجمة :
المترجم له صيغة الصفدي الموجزة (من الوافي بالوفيات) دلالة الصيغة
محمد بن مسعود البجاني القرطبي (( محمد بن مسعود البجاني القرطبي شاعر مُفلِق توفي سنة أربع مئة أو ما دونها )) . ذكر الاسم والنسب , وصفته (شاعر مفلق) , وسنة الوفاة بشكل دقيق أو تقريبي.
ابن الصيرفي (( أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك القرشي المصري النحوي توفي سنة ثمان وثلاثين وست مئة )) . يحدد الاسم والنسب , وبلدته وصفته العلمية (النحوي) , مع ذكر سنة الوفاة باللفظ.
البهاء زهير (( أبو الفضل زهير بن محمد بن علي المهلبي المصري شاعر مجيد توفي سنة ست وعشرين وست مئة )) . يذكر كنيته واسمه الكامل, وصفته الأدبية , ثم تحديد سنة الوفاة.
علي بن أبي البقاء الزكي ((علي بن أبي البقاء الزكي بن محمد بن الحسين الشاطبي، فقيه، توفي سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة )) . يوجز المعلومات في سطر واحد شامل للنسب والتخصص وسنة الوفاة.

سبب تنوع صياغات الصفدي (الوافي بالوفيات) ,إن التنوع في صياغة الصفدي لتراجمه في كتابه (( الوافي بالوفيات ))بين الإيجاز الشديد والترجمة المفصلة , يعود إلى منهجية تأليفية مستقلة تتناسب مع طبيعة المادة المترجَم لها , وذلك لعدة أسباب منها , أهمية المترجَم له ومكانته , فالتراجم الموجزة كانت تُخصص لعامة الناس , أو لمن لا يشتهرون إلا بصفة واحدة أو حادثة واحدة , أو من لم تتوفر له مادة غزيرة عنهم , مثل (شاعر مفلق توفي سنة كذا) , حيث يكتفي بالاسم , اللقب , والوفاة , والتراجم المفصلة , كانت تُخصص للخلفاء , السلاطين , كبار العلماء , والأدباء المشهورين , فيفرد لهم الصفدي مساحات طويلة يذكر فيها نسبهم , مولدهم , شيوخهم , مصنفاتهم , نماذج من أشعارهم , وظائفهم , وحوادث وفاتهم.

لقد كان هدف الصفدي هو جمع أكبر قدر من التراجم الممكنة وتغطية أوسع رقعة جغرافية وزمنية , مما استلزم منه اختصار التراجم غير الضرورية ليتسع الكتاب لآلاف الأعلام الأقل شهرة , وتميز الصفدي بحُسن الصياغة والتنوع المنهجي لضرورات التوثيق الشامل , أن قدرة الصفدي الفائقة في تنويع الصياغة في مئات التراجم والوفيات هو أحد السمات البارزة والفريدة لعبقريته الأدبية والتاريخية , ويدل على مستوى متقدم من البلاغة وسعة اللغة , فليست المسألة مجرد إحصاء للبيانات (الاسم، الوفاة) , بل تكمن براعته في تلوين الإخبار بالوفاة نفسه , وفي تنويع صياغة الوفيات , إن تميز الصفدي في هذا الجانب يرتكز على استخدام (( الجُمل الفعلية )) و(( الجُمل الاسمية )) و(( التراكيب البلاغية )) للإعلان عن الوفاة , بدلاً من الاكتفاء بالصيغة الروتينية (( توفي سنة كذا )) وهذا التنوع يخدم غرضين رئيسيين , (منع الرتابة والملل ) وهو تحدٍ كبير في عمل موسوعي ضخم مثل (( الوافي بالوفيات )) , و( التعبير عن مقام المترجَم له ) , فكل صياغة تحمل دلالة تتناسب مع منزلة الشخص (عالم , شاعر , أمير, رجل عامة ) , وأدناه بعض ألأمثلة :
التنويع في الفعل والزمان , كان الصفدي يتنقل بين الأفعال الدالة على الوفاة بطرق مبتكرة , مع تحديد الزمان والمكان بدقة:
الصياغة دلالة الصياغة مثال على التركيب
((استُدعي إلى رحمة الله تعالى)) صيغة كريمة ومُلطَّفة ومُشرِّفة. ((...استُدعي إلى رحمة الله تعالى في منتصف شهر رجب الفرد سنة سبع وخمسين وسبع مئة بدمشق )) .
((أفضى إلى ما قدّم )) صيغة تحمل معنى الحساب والجزاء ( للدلالة على صلاح أو تقوى ). ((...أفضى إلى ما قدّم في سابع ربيع الآخر من هذه السنة بعد أن عُمِّر طويلاً ))
((انتقل إلى جوار ربه )) صيغة روحانية هادئة. ((...انتقل إلى جوار ربه في المحرم بمدينة حلب )) .
((كانت وفاته )) صيغة إخبارية محايدة وسريعة. ((...كانت وفاته في شهر جمادى الأولى بالقاهرة ودُفن بالصالحية )) .
((مات فجأة )) / ((مات قتلاً)) صيغة توثيقية تذكر سبب الوفاة (أو الحادث ) . ((...مات في ذي الحجة مقتولاً في وقعة كذا وكذا )) .
التنويع في بناء الجملة وموقعها , لم يقتصر الأمر على تغيير الفعل , بل كان يغير طريقة بناء الجملة نفسها , فيقدم ويؤخر ويجعل خبر الوفاة جملة اعتراضية أو ختامية :
نوع الصياغة وظيفتها في الترجمة مثال على التركيب
الصيغة المُؤخَّرة جعل نهاية الترجمة هي الخبر الأهم. (( وقد استمر في خدمته حتى مرض في آخر عمره , وتُوفي في الثامن عشر من شهر رمضان )) .
الصيغة التجريدية الإيجاز الشديد لتوثيق المعلومة فقط. ((أحمد بن علي... شيخ حنفي ومات سنة ثلاث وثلاثين وست مئة )) .
الصيغة الوصفية ربط الوفاة بحدث أو وصف لحاله. (( وبقي على هذه الحالة من الزهد والعبادة, فأدركته المنية في سنة سبع وخمسين, ودُفن بدمشق)) .
صيغة ((سقط)) أو ((عثر)) . استخدام الأفعال التي لا تخص الموت بحد ذاته بل سببه. ((خرج من القلعة وسقط من فرسه , فتوفي في الحال في شهر شوال )) .

الخلاصة : ثروة لغوية وإبداع منهجي , إن الصفدي لم يكن مجرد ناقل للأخبار , بل كان أديبًا يُصيغ التاريخ , فبراعته في صياغة المئات من أخبار الوفيات دون تكرار يُظهر: ( سعة الحصيلة اللغوية) التي مكنته من توليد مرادفات وتراكيب بلا حصر , وكونه ( فنان في السرد التاريخي ), حيث يكسر الإيقاع الرتيب لعمل التراجم الجاف ليمنح القارئ تنوعًا وجاذبية , هذا الإبداع هو ما يجعل (( الوافي بالوفيات )) ليس مجرد سجل للموتى , بل عملًا أدبيًا وتاريخيًا يُحتذى به في فن التحرير والإنشاء.

صباح الزهيري .

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل