أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الرضا في مقهى بغداد الفاضلة .














المزيد.....

مقامة الرضا في مقهى بغداد الفاضلة .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 20:43
المحور: الادب والفن
    


قال الشيخ الأغر, أبو العبرات , وقد حطَّ عصاه على عتبة مقهى تبرق مصابيحه : (( يا سادتي الكرام , ويا أهلَ بغداد الأعلام , لقد ظلَّت دجلتنا تجري , وقروننا تمضي , وبغدادُنا العزيزةُ تفصلُ بين المقهى الذي تزدحمُ فيه الصدورُ وتُدارُ فيه كؤوسُ الطربِ , وبين المكتبةِ التي تهجعُ فيها العقولُ وتُصانُ فيها كنوزُ الأدبِ , حتى أتت فكرةٌ غريبةٌ , وُصِفَت باللبيبةِ , أنْ يُمْزَجَ (القهوةُ والكتابُ) , فيغدو المكانُ مجمعاً للأفاضلِ والمثقفين , ومُستراحاً لجلساتِ الحوارِ بين العلماءِ والمتأدبين , ثم سِرْتُ أنا العجوزُ بضعَ خطواتٍ , أقتفي أثرَ المعارفِ في الطرقاتِ , فإذا بي أجدُ على الجانبِ الآخرِ من الشارعِ مقهىً ضخماً , تزدحمُ فيه الأجسامُ , وتضجُّ منه الأصواتُ , كأنَّه سوقٌ يومَ الحجِّ أو مجمعٌ يومَ العيدِ , ويكادُ لسانُ الشمِّ يُخبركَ برائحةِ البنِّ المحروقِ والقهوةِ المُعتَّقةِ , من على هذا البُعدِ السحيقِ , وهو مقهىً نُقِشَ عليه اسمُ: رضا علوان.

فواللهِ , لقد تذكَّرتُه يومَ كان دُكَّاناً صغيراً في الكرادةِ العتيقةِ , لا يزدحمُ إلا بأهلها , ولا يضيءُ فيه إلا ماكينةُ طحنِ البنِّ الصدئةُ , التي تدورُ كدولابِ الزمنِ , وأهلُ الكرادةِ القدامى يتسابقون على بَنِّ رضا علوان , يشمُّونَهُ قبلَ أنْ يشربوهُ , ثم ارتحلَ صاحبُ البنِّ إلى حيثُ يرتاحُ الراحلون , وتغيَّرَت اللافتةُ من (بنِّ رضا علوان) إلى (أولادِ رضا علوان) , وبقيَ المكانُ كما هو, يبيعُ البنَّ مطحوناً ومجروساً , مع بعضِ الحاجياتِ المنزليةِ , وقليلٍ من المستلزماتِ البيتيةِ , لكنَّ دهرَنا هذا دهرُ انقلابٍ وتغييرٍ, فالمحلاتُ المجاورةُ تبرقُ بأضوائِها , وتتحوَّلُ إلى متاجرَ عصريةٍ , تخدعُ الأبصارَ وتُفْسِدُ الأذواقَ , ودُكَّانُ رضا علوان باقٍ على عهدهِ , لا يتغيَّرُ له حالٌ ولا يتبدَّلُ له مآلٌ , كأنه صخرةٌ في بحرِ التجديدِ .

ثم التفتُّ إلى الرفاقِ وقلتُ : إنَّ بغدادَ اليومَ , يا سادتي , ما هي إلا رواياتٌ تُروى وقصصٌ تُحكَى , فكلُّ شارعٍ فيها كتابٌ مفتوحٌ , وكلُّ مقهىً مدرسةٌ تُعلِّمُنا أنَّ الأصالةَ لا تموتُ , بل تلبسُ ثوباً جديداً , فما أجملَ أن ترى الماضي يتنفسُ في صدرِ الحاضرِ, وأن تشهدَ على دكانٍ متواضعٍ يتحولُ إلى صرحٍ شامخٍ , إنَّه لحكمةٌ بالغةٌ , ودرسٌ بليغٌ في قيمةِ البقاءِ على المبدأ , مهما علا صوتُ التغييرِ وتبرَّجَت وجوهُ الموضةِ العابرةِ.

وحسبتُها في نفسي , وقلتُ : لابدَّ أنَّ الأبناءَ قد اجتمعوا في مجلسٍ عائليٍّ , وعقدوا (جلسةَ عصفِ ذهنٍ) , يتساءلون : ما العملُ بهذا الموقعِ الثمينِ , الذي لا يجلبُ لنا مالَ البنينِ؟ فبرقَتْ في ذهنِ أحدهم فكرةٌ (( خارجَ الصندوقِ )) , فقالَ: يا إخوتي الأعزَّاءَ , لماذا نبيعُ البنَّ مطحوناً , ولا نحولُهُ إلى فنجانِ قهوةٍ سخينٍ , يرتشفُهُ الناسُ في مقهىً واسعٍ , وندخلُ بهِ سوقَ البغداديين؟ وهكذا , أيها السادةُ , أصبحَ لبغدادَ مقهىً باسمِ رضا علوان , يتَّسِعُ ويكبرُ ويتمدَّدُ , حتى فاقَ التوقُّعاتِ , وتعدَّدَتْ فروعُهُ في الأرجاءِ , فغدا واحداً من معالمِ بغدادَ الجديدةِ , وأصبحتْ قهوتُهُ تُنافسُ قهوةَ الوجهاءِ والأسيادِ .

لقد كنتُ أراقبُ حركةَ الزبائنِ , بين داخلٍ وخارجٍ , فإذا بهم طبقاتٌ شتى من الناسِ, وفئاتٌ مختلفةٌ من المجتمعِ , قد ألفتهم رائحةُ البنِّ الزكيةُ والضجةُ المحببةُ , فالشابُّ الجامعيُّ يذاكرُ دروسَهُ بين ضوضاءِ الأحاديثِ , والشاعرُ المرهفُ يُنقِّحُ قصيدتَهُ على مائدةٍ من زجاجٍ , والتاجرُ الأنيقُ يعقدُ صفقاتِهِ فوقَ بخارِ القهوةِ التركيةِ , فاجتمعَ القومُ على الرضا , لا رضا العلْوانِ وحسبْ , بل رضا النفسِ عن المآلِ , ورضا العيشِ عن الحالِ , فهلْ أبلغُ من هذا اجتماعاً , يجمعُ القلوبَ والأفكارَ حولَ فنجانِ سعادةٍ ؟

فتعجَّبتُ من حكمةِ الأبناءِ , وصرختُ في الأسماعِ : سبحانَ مَنْ يحيي العظامَ وهي رميمٌ , إنَّ دكَّاناً للبنِّ قد صارَ مقهىً عامراً , يُحيي السَّهرَ ويُطيلُ الأحاديثَ , وبغدادُ لا تموتُ وإنْ تغيرَت أسواقُها , فيا لَلَّهِ من دنيا , تبدأُ بحبَّةِ بنٍّ , وتنتهي بفنجانِ قهوةٍ , والحمدُ للهِ ربِّ العالمين .
صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَقَامَةُ الجُهَّال .
- مقامة طوبى : في ذكر حال الأنام والآمال العِظام .
- المقامة الإقصائية .
- المقامة الإسلاسية .
- مقامة ترانيم الخريف .
- مقامة فن الصياغة : الوافي بوفيات الصفدي مثلا .
- مقامة حَرْقِ الكُبُودِ على عراقٍ مَغْزُو .
- مقامة حديث خرافة يا أم عمرو!
- مقامة النوارزمية : فصلُ النورِ وحُجَّةُ الخوارزمِ .
- مقامة (( لعم )) .
- مقامة الخطو وحيدا .
- مَقَامَةُ إِخْوَانِ الصَّفَا وَخِلَّانِ الوَفَا .
- مقامة رماد القدر.
- مقامة الأباطيل والأكاذيب : حين يكتب السيف .
- مقامة مال السُّوَّال .
- مقامة معادن غريبة .
- مقامة الخذلان .
- مقامة حب كونفوشيوس .
- مقامة المهذب الرقيق .
- مقامة نباح المناهج وذبابها : أدب المقاومة الفكرية.


المزيد.....




- روبيو: المفاوضات مع الممثلين الأوكرانيين في فلوريدا مثمرة
- احتفاء مغربي بالسينما المصرية في مهرجان مراكش
- مسرحية -الجدار- تحصد جائزة -التانيت الفضي- وأفضل سينوغرافيا ...
- الموت يغيب الفنان قاسم إسماعيل بعد صراع مع المرض
- أمين معلوف إثر فوزه بجائزة أدبية في المكسيك: نعيش في أكثر عص ...
- الدرعية تحتضن الرواية: مهرجان أدبي يعيد كتابة المكان والهوية ...
- أمين معلوف إثر فوزه بجائزة أدبية في المكسيك: نعيش في أكثر عص ...
- يهود ألمانيا يطالبون باسترداد ممتلكاتهم الفنية المنهوبة إبان ...
- هل تقضي خطة ترامب لتطوير جزيرة ألكاتراز على تقاليد سكانها ال ...
- محافظ طولكرم ووزير الثقافة يفتتحان مهرجان ومعرض يوم الكوفية ...


المزيد.....

- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الرضا في مقهى بغداد الفاضلة .