صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8498 - 2025 / 10 / 17 - 20:23
المحور:
الادب والفن
مقامة المندلاوي في (( نَجْوَى الصَّمْتِ الهَادِي )) .
قَالَ شَيخُنَا الثَّمَانِينِيُّ (( المَنْدَلاوِيُّ الجَمِيلُ )) يَوْمًا , وَقَدْ تَرَبَّعَ عَلَى مَجْلِسِهِ فِي رَوْضَةٍ غَنَّاءَ , وَالطَّيْرُ تُغَرِّدُ كَأَنَّهَا تُنشِدُ حِكْمَةً لَا يُدرِكُهَا إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ , فَنَبَسَ بِلِسَانٍ يُزهرُ فِيهِ المَغزَى , ويَتَجَلَّى فِيهِ السَّنَا , فَقَالَ : (( يَزْهُو الصَّمْتُ لَذِيذًا فِي أَرْجَاءِ رُوحِي , فَأَكَادُ أَخْتَنِقُ مِنْ فَرَحِي وَمِنْ دِفْئِهِ , فَهُوَ بَلْسَمُ النَّفْسِ وَزَادُ الفِكْرِ , وَهُوَ مِعْرَاجُ السَّالِكِينَ إِلَى مَعَاقِلِ السَّلَامَةِ , وَمَقَامَاتِ الهَيْبَةِ )) , ثُمَّ التَفَتَ إِلَيْنَا , وَعَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ بِنُورِ التَّجْرِبَةِ , وَحَنَّكَةِ السِّنِينَ , وَأَشَارَ بِيَدِهِ الوَضِيئَةِ إِلَى كُتُبٍ تَتَرَاكَمُ عَلَى مَائِدَةٍ قَرِيبَةٍ , وَقَالَ : يَا أَحِبَّتِي , لَقَدْ تَعَلَّمْنَا مِنَ الأَسْلَافِ ( رَحِمَهُمُ اللهُ ) أَنَّ هَذَا الصَّمْتَ لَيْسَ عِيًّا وَلَا عَجْزًا , بَلْ هُوَ حِلْمٌ عَظِيمٌ , أَلَمْ يَسْمَعْ أَحَدُكُمْ قَوْلَ أَبِي الدَّرْدَاءِ : (( تَعَلَّمُوا الصَّمْتَ كَمَا تَعَلَّمُونَ الكَلَامَ , فَإِنَّ الصَّمْتَ حِلْمٌ عَظِيمٌ , وَكُنْ إِلَى أَنْ تَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْكَ إِلَى أَنْ تَتَكَلَّمَ , وَلَا تَتَكَلَّمْ فِي شَيْءٍ لَا يَعْنِيكَ )) , وَكَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ : (( أَفْضَلُ العِبَادَةِ الصَّمْتُ , وَانْتِظَارُ الفَرَجِ )) , هَذِهِ وَصْفَةٌ لِلنَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ , فَأَيْنَ البَاحِثُونَ عَنِ الفَضَائِلِ؟
يَا سَادَةَ المَجْلِسِ , إِنَّ الحِكْمَةَ ( كَمَا يُقَالُ ) عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ , (( تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي الصَّمْتِ , وَالعَاشِرَةُ عُزْلَةُ النَّاسِ )) , فَمَنْ لَزِمَ الصَّمْتَ فَقَدْ وَطِئَ أَعْتَابَ الحِكْمَةِ بِقَدَمٍ ثَابِتَةٍ , وَلَا عَجَبَ , فَلَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ : (( لَوْ أَنَّ عَبْدًا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ , مَا اخْتَارَ أَفْضَلَ مِنَ الصَّمْتِ )) , وَهَلْ يُفْتِي المَرْءُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ مَا فِيهِ صَلَاحُهَا ؟ وَكَمْ هِيَ بَلِيغَةٌ نَصِيحَةُ الشَّافِعِيِّ ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ) لِشَابٍّ مِنْ أَصْحَابِهِ حِينَ قَالَ لَهُ : (( الْزَمِ الصَّمْتَ إِلَى أَنْ يَلْزَمَكَ التَّكَلُّم , فَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَنْ يَنْدَمُ , إِنَّمَا يَنْدَمُ إِذَا هُوَ نَطَقَ , وَقَلَّ مَنْ يَنْدَمُ إِذَا سَكَتَ , وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الصَّمْتِ إِلَى الكَلَامِ , أَحْسَنُ مِنَ الرُّجُوعِ عَنِ الكَلَامِ إِلَى الصَّمْتِ )) , فَهَلْ مِنْ نَاظِرٍ فِي مَرَاكِزِ النَّدَمِ؟
وَاسْمَعُوا قَوْلَ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ , وَهُوَ مِنْ بَلِيغِ كَلَامِ العَرَبِ : (( الصَّمْتُ خَيْرٌ مِنْ عِيِّ المَنْطِقِ )) , وَأَجَادَ العَنْتَرِيُّ حِينَ شَرَحَ بَعْضَ مَزَايَا هَذَا البَابِ حِينَ قَالَ : (( مَن لَزِمَ الصَّمتَ اكْتَسَى هَيْبَةً تُخْفِي عَنِ النَّاسِ مَسَاوِيْهِ لِسَانُ مَن يَعْقِلُ فِي قَلْبِهِ وَقَلْبُ مَن يَجْهَلُ فِي فِيهِ )) , فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ بَيَانٍ؟ العَرَبُ تَقُولُ : (( رُبَّ كَلَامٍ أَوْرَدَكَ مَوْرِدَ القِتَالِ )) , وَالحَكِيمُ يَنْصَحُ ابْنَهُ فَيَقُولُ : (( يَا بُنَيَّ, قِ (أَيِ اتَّقِ) فَاكَ مَا يَقْرَعُ قَفَاكَ )) , وَمَا أَعْظَمَهُ مِنْ حِفَاظٍ , فَإِنَّ (( مِلَاكَ حُسْنِ السَّمْتِ , إِيثَارُ الصَّمْتِ )) .
يَا رُوَّادَ الكَلَامِ , لَقَدْ خَافَ الأَخْيَارُ مِنْ فِتْنَةِ القَوْلِ وَسَقَطَاتِهِ , كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ : أَكْثَرَ مِمَّا خَافُوا مِنْ فِتْنَةِ السُّكُوتِ , وَلَا عَجَبَ , فَابْنُ السِّكِّيتِ يَنْصَحُنا قَائِلًا : يُصَابُ الفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ وَلَيْسَ يُصَابُ المَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ فَعَثْرَتُهُ بِالقَوْلِ تُذْهِبُ رَأْسَهُ وَعَثْرَتُهُ بِالرِّجْلِ تَبْرَا عَلَى مَهْلِ , إِنَّ الصَّمْتَ سِتْرٌ لِلعَيِيِّ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَإِنَّمَا (( صَحِيفَةُ لُبِّ المَرْءِ أَنْ يَتَكَلَّمَا )) , لَكِنْ لِنَتَكَلَّمَ بِمَا يَزِيدُ لُبَّنَا , لَا بِمَا يُنْقِصُهُ , فَكَمَا قَالَ بَعْضُ الحُكَمَاءِ : (( إِذَا جَالَسْتَ الجُهَّالَ فَأَنْصِتْ لَهُمْ , وَإِذَا جَالَسْتَ العُلَمَاءَ فَأَنْصِتْ لَهُمْ , فَإِنَّ فِي إِنْصَاتِكَ لِلْجُهَّالِ زِيَادَةً فِي الحِلْمِ , وَفِي إِنْصَاتِكَ لِلْعُلَمَاءِ زِيَادَةً فِي العِلْمِ )) .
يَا بُنَيَّ , وَلَقَدْ مَرَّتْ بِنَا أَيَّامٌ , أَصْبَحَ فِيهَا الصَّامِتُ أَقْرَبَ إِلَى السَّلَامَةِ , وَأَبْعَدَ عَنِ النَّدَامَةِ , فَكَمْ مِنْ كَلِمَةٍ أَوْرَدَتْ قَائِلَهَا المَهَالِكَ , وَاسْمَعُوا قَوْلَ القَائِلِ : (( اسْتُرِ النَّفْسَ مَا اسْتَطَعْتَ بِصَمْتٍ إِنَّ فِي الصَّمْتِ رَاحَةً لِلصَّمُوتِ وَاجْعَلِ الصَّمْتَ إِنْ عَيِيْتَ جَوَابًا رُبَّ قَوْلٍ جَوَابُهُ فِي السُّكُوتِ )) , وَمَا أَجْمَلَهَا مِنْ مَقُولَةٍ لِابْنِ المُعْتَزِّ: (( إِذَا تَمَّ العَقْلُ نَقَصَ الكَلَامُ )) , فَالصَّمْتُ عَيْنُ السَّلَامَةِ , وَلُبُّ الفِرَارِ مِنَ النَّدَامَةِ , وَمَنْ طَالَ صَمْتُهُ لَزِمَتْ هَيْبَتُهُ , وَمَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقْطُهُ , فَانْحَدَرَتْ مَكَانَتُهُ , فَمَا الَّذِي يُجْدِي مِنْ كَلَامٍ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ , وَلَا مَصْلَحَةٌ تُفُوتُ بِهِ , وَلَا ضَرَرٌ يَقَعُ إِذَا لَمْ يُقَلْ؟ لَا خَيْرَ فِي كَلَامٍ يُقَالُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ .
لَكِنَّنَا، يَا سَادَةَ المَجْلِسِ , لَسْنَا نَدْعُو إِلَى صَمْتٍ حَتَّى المَوْتِ , وَلَا إِلَى صِيَامٍ عَنِ الكَلَامِ دَوَامًا , إِنَّمَا هُوَ حَثٌّ عَلَى اخْتِيَارِ الصَّمْتِ حِينَ يَكُونُ أَنْفَعَ , وَدَعْوَةٌ إِلَى تَخَيُّرِ أَطَايِبِ المَعَانِي وَأَجْوَدِ الأَلْفَاظِ إِذَا لَزِمَكَ الحَدِيثُ , وَفِي هَذَا يَقُولُ أَبُو الفَتْحِ البُسْتِيُّ بَلِيغًا : (( تَكَلَّمْ وَسَدِّدْ مَا اسْتَطَعْتَ , فَإِنَّمَا كَلَامُكَ حَيٌّ , وَالسُّكُوتُ جَمَادُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَوْلًا سَدِيدًا تَقُولُهُ فَصَمْتُكَ عَنْ غَيْرِ السَّدِيدِ سَدَادُ )) , وَنَحْنُ يَا كِرَامَ السَّبِيلِ فِي زَمَنٍ طَغَى فِيهِ الكَلَامُ , وَاسْتَفْحَلَتْ فِيهِ الثَّرْثَرَةُ , حَتَّى كَأَنَّنَا فِي حَفْلَةِ هَذْرٍ لَا يَنْقَطِعُ , يُقَالُ فِيهِ بِلَا سَبَبٍ , وَيُرْطَنُ بِلَا دَاعٍ , لَقَدْ كَثُرَ مِنْ يَهْذِي بِكُلِّ حَدِيثٍ مُؤْذٍ , وَاسْتَفْحَلَ مَنْ يَهْرِفُ بِمَا لَا يَعْرِفُ , لَكِنَّ هَذَا لَا يُغَيِّرُ مِنْ حِكْمَةِ الأَوَائِلِ شَيْئًا , فَالنَّصِيحَةُ بَاقِيَةٌ : (( رَحِمَ اللهُ امْرَأً قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ , أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ )) , ثُمَّ نَكَسَ شَيْخُنَا رَأْسَهُ قَلِيلًا , وَعَادَ الصَّمْتُ يَسُودُ , صَمْتًا لَذِيذًا , كَأَنَّهُ يُزْهِرُ فِي أَرْجَاءِ الرُّوحِ , وَهُوَ خَيْرُ خِتَامٍ , فَكَانَتْ هَذِهِ المَقَامَةُ نَجْوَى الصَّمْتِ الهَادِي , وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ عَقَلَ وَاجْتَمَعَ لُبُّهُ.
صباح الزهيري .
#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟