أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامةُ الأفندي تحسين في بَتانِ بغدادَ وبَطِّها .















المزيد.....

مقامةُ الأفندي تحسين في بَتانِ بغدادَ وبَطِّها .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8520 - 2025 / 11 / 8 - 14:19
المحور: الادب والفن
    


يا سادتي الكرام , يا من غشيتُم هذا المجلسَ الميمونَ , وشرَّفْتموهُ بحضوركم , سلامُ اللهِ عليكم ورحمتهُ وبركاته , وبعدُ : أرى في عيونكم لَمْعَةَ استفسارٍ , وفي أسماعِكم شَوْقاً لحديثٍ يطوي حُجُبَ الزمانِ عن بقعةٍ من بقاعِ بغدادَ الزاهرة , هي البتاويون , أو كما يشيعُ على ألسنةِ العوامِ: البتاوين , وما أنا إلا خادمٌ للعلمِ وراويةٌ للتاريخِ , فخذوا عني القولَ في هذه المقامةِ , التي وسمتها بـ: (( مقامةُ البتاويين وسِرُّ التسميةِ والحالِ )) .

القسمُ الأول: في أصلِ التسميةِ ومنبتِ أهلِها.

طرقتُ هذا الموضوعَ على رِسْلٍ وتأنٍ , بعد مطالعاتٍ وتساؤلاتٍ , فاجتمعتْ لديَّ رِوايتانِ , كلتاهُما تُسفرُ عن حقيقةٍ لا تغيبُ عن العاقلِ:
1. روايةُ النزوحِ الزراعيِّ (البَتَّةُ والبتَّاوي) : ذكرتُ لكم أنَّ أصلَ الاسمِ يعودُ إلى قريةٍ صغيرةٍ أو مَحلَّةٍ تُعرفُ بـ (( البَت)) أو (( البَتَّة )) تلك التي كانت تحاذي نهرَ ديالى , بالقربِ من ضريحِ الصوفيِّ المبرورِ (( أبي دِريس )) , نزحَ منها قومٌ فلاحونَ , خبيرونَ بالأرضِ والزراعة , يبحثونَ عن رِزقٍ ومأوى , فاستوطنوا بقعةً كانت قديماً خارجَ أسوارِ بغدادَ ومسمَّاةً (( بُستانَ الخَسِّ )) , جنوبَ البابِ الشرقيِّ , أو باب كلواذا , نُسِبوا إليها , فقيلَ للواحدِ منهم (( بَتَّاويٌّ )) , وللجمعِ (( البتاويون)) , وهذا القولُ يتماشى مع كونِ المنطقةِ كانت بساتينَ وأراضيَ زراعيةً تستمدُّ ماءَها من دجلةَ الأغرِّ , وكأنهم ورِثوا حرثَ الأرضِ من القريةِ الأولى.
2. روايةُ العشيرةِ والقبيلةِ (البَطَّةُ والبطَّاوين) , ثم وجدتُ من يقولُ -ويُصرُّ على قولهِ- أنَّ التسميةَ تعودُ إلى عشيرةِ (( البَطَّة )) وهي فخذٌ من (( الجحيشِ الزُّبَيْدِ )) الذين رحلوا من مناطقِهِم في ديالى والنهروانِ والمدائنِ في غمرةِ القرنِ التاسعَ عشرَ, ونصبوا خِيامَهم في تلكَ البساتينِ , كانت تُدعى حينئذٍ (( البطَّاوين)) جمعَ البَطَّةِ , ثم خففتْ التسميةُ واستُبدلتْ إلى (( البتاوين)) لسهولةِ النطقِ , وقد عُلمَ أنَّ هذه العشيرةَ غادرتْ هذه الديارَ لاحقاً , أيامَ توسعةِ بغدادَ في عهدِ أمينِ العاصمةِ (( أرشدَ العمريِّ )) في العهدِ الملكيِّ , وعادتْ إلى مَواطِنِها القديمةِ.
وكِلا الرأيينِ يَصبُّ في كونِ المنطقةِ كانت زراعيةً , سكنها أناسٌ قادمونَ من ضواحي ديالى , فإما نُسِبوا لعملِهم (البَتَّاوي : الفلاحُ النازحُ) , وإما نُسِبوا لعشيرتِهم (البطَّةُ) , وأنا أميلُ إلى أنَّ الأصلَ زراعيٌّ , ثم تداولتْ عليه الأقوامُ.

القسمُ الثاني : في سُكَّانِها ومِحَنِ الديارِ .

يا لهُ من حيٍّ , جمعَ أطيافَ العراقِ كُلَّها على بساطٍ واحدٍ , كانت البتاوينُ , وهي في جانبِ الرصافةِ , مُذْ نشأتْ , كُبرى مناطقِ التعدُّدِ والوِفاقِ , سكنها المسلمونَ جنباً إلى جنبٍ مع :
• الطائفةِ المسيحيةِ التي كانت تُشكِّلُ قِسطاً كبيراً من أهلِها , وظلَّتْ هي الغالبةُ من الطبقاتِ الفقيرةِ.
• الطائفةِ اليهوديةِ التي استوطنتْ بالقربِ من معبَدِها الشهيرِ (( كنيسُ مِئيرْ طُويقْ )) , خاصةً بعدَ هجرتِهم إليها هرباً من أحداثِ (( الفرهودِ)) عامَ 1941م , وكأنَّ الفلاحينَ حمَوهم من القتلِ , كما رُويَ , ولا زالتْ كثيرٌ من عقاراتِها حتى يومِنا هذا مُسجَّلةً بأسمائِهِم.
غيرَ أنَّ المِحَنَ لم تتركْ هذا الحيَّ وشأنَهُ , فبعدَ قرارِ إسقاطِ الجنسيةِ عن يهودِ العراقِ عامَ 1950م وتهجيرِهِم القسريِّ إلى إسرائيلَ , خَوتْ كثيرٌ من بيوتِهِم , ثم زادَتْ الطينَ بِلَّةً فتنُ ما بعدَ عامِ 2003م , حينَ بدأتْ عملياتُ التهجيرِ الطائفيِّ والعرقيِّ , فامتلأتْ المنطقةُ بعوائلَ مُهجَّرةٍ , نخصُّ بالذكرِ منها العوائلَ الغجريةَ التي اضطُرَّتْ لتركِ ديارِها , كما أنَّ المنطقةَ استقبلتْ , ولا زالتْ , عوائلَ سودانيةً ومصريةً استقرتْ في حيِّ الأورفليَّةِ منذُ ثمانينياتِ القرنِ العشرينَ.

القسمُ الثالث : في سِمتِها وحالِ سوقِها .

هي ذاكرةٌ عراقيةٌ , مُتخمةٌ بالضجيجِ والحركةِ , ومحطَّةٌ للهامشيينَ والبسطاءِ , تمتدُّ حدودُها من الأورفليةِ حتى نهايةِ شارعِ (( الزعيمِ عبدِ الكريمِ )) , في قلبِها يقعُ شارعُ (( تونس )) وإلى جوارِهِ محلاتُ الألمنيومِ والديكورِ , وأسواقُها مُزدهرةٌ : تجدُ فيها بقالاتِها , ومخازنَ مشروباتِها الكحوليةِ , وسوقاً للفاكهةِ وآخرَ للخضراواتِ , ومحلاتِ اللحومِ والمطاعمِ الشهيرةِ كـ (( أبي يونان )) و (( تاجَران )) , وصحَّتُها مُوفَّرةٌ : ففيها عياداتُ الأطباءِ بمختلفِ الاختصاصاتِ والصيدلياتِ , وهي مَلجأُ العابرينَ ومَن لا مأوى لهُ : ففي أزقَّتِها تجدُ المقاهيَ الشعبيةَ , وتتميزُ بكثرةِ فنادقِها بمختلفِ درجاتِها , وكأنها مَرسىً لكلِّ قادمٍ أو غريبٍ , والبتاويون , يا سادتي , حكايةُ بغدادَ المُصغَّرةِ , حكايةُ التسامحِ والنزوحِ , حكايةُ الغنى والفقرِ , حكايةُ التنوعِ والصراعِ , هي قطعةٌ من تاريخِ العراقِ , لا زالتْ أزقَّتُها تُحدِّثُنا عن أيَّامٍ خَلتْ.

القسمُ الرابعُ : في العِبرةِ والحِكمةِ والمُستَقى .

فقالَ الأفندي تحسينُ , وقدْ أسندَ ظهرَهُ إلى مِخدَّتِهِ , وغَمغَمَ بكلماتٍ خَفِيَّةٍ , ثمَّ رفَعَ صوتَهُ مُنبِّهاً : (( وإذْ قدْ طوينا يا سادتي أسفارَ هذهِ المقامةِ , وأدركنا مَنبتَ كرّادةِ البتة ومآلَها , فاعلموا أنَّ الأوطانَ ليستْ حجارةً تُبنى ولا تراباً يُزرعُ وحسبُ , بل هيَّ ذِمامٌ يُصانُ , وسِجلُّ تنوُّعٍ يُروى , فلقدْ رأيتُمْ أنَّ البتاويينَ , وهي بقعةٌ ضئيلةٌ على خارطةِ الرصافةِ , قدْ جَمعتْ البَتَّاويَّ المزارِعَ , والبَطِّيَّ الزُّبيديَّ , واليهوديَّ النازحَ من الفَرهودِ , والمسيحيَّ الأوَّلَ , والمسلمَ الساكنَ , والغجريَّ المُهجَّرَ , والمُقيمَ الغريبَ , فكلُّهمْ باتوا أهلَ دارٍ , وإنْ غادرَها السابقونَ , وإنَّ في هجرةِ اليهودِ , وسكونِ الغجرِ, وتَحوُّلِ البساتينِ إلى فنادقَ , لَعِبرةٌ : بأنَّ الديارَ لا تَثبتُ على حالٍ , ولا الأقوامَ تَدومُ على وِفاقٍ , فكمْ منْ حَيٍّ كانَ عامراً بالياسمينِ أصبحَ مأوى للمُتعبينَ , وكمْ منْ عشيرةٍ ترَكتْ أثرَها وغابتْ , فجاءَ بعدَها قومٌ ونسَبوا المكانَ إلى غيرِ أصحابِهِ الأوَّلينَ , فَتَمسَّكُوا -أيها الأفاضلُ- بأصلِ التسامحِ , ودَعُوا فُضولَ الجدلِ في الفُروعِ , فليسَ الشأنُ فيمَنْ سَمّاها أولاً ( بتاوينَ أم بطَّاوينَ ) , بل الشأنُ فيمَنْ عَمَرَها بالودادِ وحَفِظَها من الخَرابِ , فالعاقلُ مَن اتَّعظَ بالتاريخِ , واحتَضنَ أهلَ العِراقِ جميعاً , فهمْ نَسَبُ هذهِ الأرضِ الأصيلُ , ومَضْربُ مَثلِها في التَّسامحِ والجَمالِ. فأينَ ذهَبَ ذاكَ الوِفاقُ القديمُ ؟ نسألُ اللهَ صلاحَ الأحوالِ وخاتمةَ الأقوالِ والأفعالِ )) .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الغطرسة : الداء والجلاء .
- مقامة العبارة الضيقة : ما أوسع رؤيتها ؟
- مَقَامَةُ الْأَحْفَادِ وَمَتَاعِبِ الْأَجْدَادِ .
- مقامة شذرات من السيرة الذاتية .
- مقامة نجاة الصغيرة : ( الضوء المسموع ) , وهمسٌ يغوص في أعماق ...
- المقامة البغدادية في تَلَوُّنِ الأوطانِ وبكاءِ الأحياءِ .
- مقامة أللاأنجابية : في زمن الروبوتات والمنتحرين .
- مقامة الهدم: جرافات تهاجم ذاكرة العراق الثقافية .
- مقامة ابن باديس والتنوير: الأذهان أولاً , ثم الأوطان .
- مقامة الفصام .
- مقامة العطارين : أسرار عمرها 4600 عام .
- مَقَامَةُ حِكَايَاتِ النَّمْلِ .
- مقامةُ الرجاءِ في زمنِ الحيْصَ بيْص .
- مقامة السلطة والفكر .
- مقامة غادة وغسان : حقيقة الحب ووهم الوصال .
- مقامة اكسير الشباب .
- مقامةُ الشَّيخِ في ذمِّ الرَّشوةِ وتزيينِها بالهديَّة .
- مقامة دزني .
- مقامة لعّابة الصبر : العراق و سَوْط حقيقة الحكايات الصارخ .
- مقامة الخطو للوراء .


المزيد.....




- جلسة شعرية تحتفي بتنوع الأساليب في اتحاد الأدباء
- مصر.. علاء مبارك يثير تفاعلا بتسمية شخصية من -أعظم وزراء الث ...
- الفيلم الكوري -أخبار جيدة-.. حين تصنع السلطة الحقيقة وتخفي أ ...
- بالاسم والصورة.. فيلم يكشف قاتل شيرين أبو عاقلة
- السباق نحو أوسكار 2026 ينطلق مبكرًا.. تعرف على أبرز الأفلام ...
- إطلاق الإعلان الترويجي الأول للفيلم المرتقب عن سيرة حياة -مل ...
- رئيس فلسطين: ملتزمون بالإصلاح والانتخابات وتعزيز ثقافة السلا ...
- السباق نحو أوسكار 2026 ينطلق مبكرًا.. تعرف على أبرز الأفلام ...
- شاهد رجل يقاطع -سام ألتمان- على المسرح ليسلمه أمر المحكمة
- مدينة إسرائيلية تعيش -فيلم رعب-.. بسبب الثعابين


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامةُ الأفندي تحسين في بَتانِ بغدادَ وبَطِّها .