أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة العبارة الضيقة : ما أوسع رؤيتها ؟














المزيد.....

مقامة العبارة الضيقة : ما أوسع رؤيتها ؟


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 22:12
المحور: الادب والفن
    


مقامة العبارة الضيقة: ما أوسع رؤيتها؟

من روائع العشق الصوفي , وليس كل ما تجيش به النفس يمكن التعبير عنه , ولذلك يقول المتصوف والفيلسوف الكبير محمد بن عبد الجبار النفري جملته الشهيرة: (( إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة )) , وهي مقولة شهيرة , تقف شاهدة على شخصية استثنائية في تاريخ الفكر, وتعني أن العبارات والكلمات تبدو عاجزة عن وصف أو شرح التجارب والمفاهيم العميقة التي يدركها الإنسان ببصيرته حين تتسع معرفته وإدراكه للوجود والحقائق الروحية , فالاتساع الروحي العميق يجعل الشخص يدرك حقائق لا يمكن اختصارها في كلمات , فتكون العبارات غير كافية أو حتى تخجل اللغة من محاولة وصف ما تم إدراكه بهذا العمق.

وفي شرح المقولة وتجلياتها الصوفية , واتساع الرؤية يشير إلى الارتقاء الروحي والمعرفي , حيث يصبح الإنسان قادرًا على رؤية الأمور من زاوية أعمق وأوسع , مدركًا خفايا الحكمة ومعاني الوجود التي قد تكون غائبة عن غيره , يقول النفّري بحق وصدق قولته الرائعة المنبثة الآن في أعمق أعماق الشعر المعاصر الحي , فالعارف إن نطق , لن يكون كلامه إلا شطحًا أو عبارة غير مفهومة تعبّر عن تجربة لا يمكن وصفها أو نقلها , لذلك فضّل النفري في وقفاته ومواقفه أن يصمت, والصمت هنا صادر عن الدهشة أو ناتج عنها , كما أنه دليل على عجز العبارة في أن تنقل ما تريد , تمامًا كما أن الصمت مجال رؤية أو إدراك لحشود من المعاني العميقة , تضيق بها العبارة وتتسع معها الرؤية.

ولكن تضيق الرؤى حين نتوقّف عن طرح الأسئلة , وحين نسمح للضجيج بأن يُعمينا عن حقائقَ أبسط وأعمق , نكتب عن السعادة ونحن في الداخل فارغون , نتحدّث عن الحُبّ وكأنّه حدثٌ عابر, بينما قلوبنا قد نسيت كيف تنبض به في صمت عميق , نعيش في زمن تغرق فيه التفاصيل في بحر من العبارات الجوفاء , حيث لا نجد وقتًا لنغوص في أعماق أنفسنا بعيداً من ضوضاء المنصّات , نحن في حاجة إلى أن نُعيد اكتشاف قيمة (( قلّة الكلام )) , أن نُقلّل من الضجيج حولنا , لنستمع إلى أصواتنا الداخلية , إلى تلك اللحظات التي لا تحتاج إلى جمهور أو تصفيق , لنكتشف أن المعادلة التي تحدّث عنها النفّري لا تزال صحيحةً رغم كلّ شيء , كلّما وسّعنا رؤيتنا للعالم , ضاقت حاجتنا إلى الكلام , وحين نتعلّم أن نعيش الحياة بعمق , سنتحدّث أقلّ , لكن كلّ كلمة ستصبح أثمن , لأن ما يعبّر عنها هو روح متأمّلة , لا مُجرَّد أصابع تنقر بلا توقّف على شاشة زجاجية.

كثيرون تغنّوا بعبارة النفّري دون أن يفلحوا في تفكيك بُنْيتها , فما معنى أن تضيق العبارة ما أن تهيمن الرؤية ؟ الواقع أن النفّري لا يكتفي بحرف هذه الوصيّة في شذرته الثريّة , ولكنه يُضيف مباشرةً: (( العبارة سِترٌ فكيف ما نُدِبت إليه ؟ )) , إنه الاحتفاء بالرؤية , على حساب بؤس العبارة , فالعبارة تنهل من ينابيع الحسّ , بينما الرؤية إنّما تستعير ذخيرتها من بحور الحدس, العبارة كحرف وُجد ليُميت , في مقابل ماهيّة الرؤية كروحٍ منذورة لأن تُحيي , بل نتساءل : هل أصاب النفّري عندما استخدم في المعادلة كلمة (( رؤية )) , بدل كلمة (( رؤيا ؟ )) فالرؤية غنيمة الحسّ , فاكهة منتجة بحرف عدسة سحرية , أمّا المبدأ الجدير بأن يتولّى أمر ما استخفى , فهو من صلاحيّات أعجوبة أخرى أطلق عليها دهاة اللغة اسمًا مهيبًا هو : الرؤيا , ربّما لانتمائه إلى مَلَكة الإلهام , أو حتى لصلته الحميمة بملكوت الوحي , من هنا نستطيع أن نستبدل كلمة (( الرؤية )) في وصيّة النفّري بكلمة (( الرؤيا )) , لأن الرؤيا وحدها الترجمان المنتدب لقول الكلمة التي جاد بها الحدس، وليس الحسّ.

ولكن الورطة أننا فقدنا الوسيط الوحيد المخوّل بتولّي إخبارنا عن حقيقة الوصيّة وهو: العبارة , فما معنى القبول بوفاة العبارة ؟ القبول بوفاة العبارة يعني الاعتراف بحضور الحقيقة , ووجود الحقيقة رهين التضحية بالعبارة , لأن الافتتان باستخدام اللغة هو ما يلهينا عن استدراج الحقيقة باستجلاء الرؤيا , اللغة هي التنّين الشره الذي يلتهم الحقيقة , لا لشيء إلاّ لأننا استسلمنا للعبارة , بدل أن ننتصر على ضعفنا ونتعلّم بيان الإشارة , وان الكفّ عن استخدام اللسان هو شهادة خروج من واقع الوجود , ولكنه بحضور الحقيقة , ذلك الخلاص الحقيق بأن يلقّننا درس الوصيّة الطاوية: (( مَن عرَفَ الحقيقة في الصباح , في المساء يستطيع أن يموت)) , ومن الطبيعي أن تضيق العبارة عندما تتسع الرؤيا , لأن العبارة برهان وجود, أما الرؤيا فشهادة خلود.

تكون الخاتمة تجلّي ورجاء : يقولون إِنَّ فِي الخَمْرِ مَعنىً لَيْسَ فِي العِنَبِ , وأن الموت بين الأهل نعاس , وكأن (أقسى مِن البعد قربٌ فيه نختلفُ) , لقد شددْنا الرحالْ , نسمّرُ أرجلَنا في الرِّكاب وقلنا : أطالتْ ظعونُ الهوى أم تُراها تطول؟ أيأفلُ ذاك الوميض الذي هزَّ أرجوحةَ العمر يومًا ؟ لماذا بعد الجرعات أتمايل ببطء كبجعةٍ راقصة على أطراف كمانٍ جريح ؟ ولماذا تُغلق الأبواب في وجه الحضور الثمل ؟ أبحث عن الأثر, فيتكسّر صوت الموسيقى حولي على زجاج نوافذ العشاق , وحين كدتُ أغلق آخر الأبواب , وأسدل ستار الصمت على قيثارتي , حضر العراق وكان كل ما كنتُ أنتظر, ملأ كل الغياب بحضوره , فوجدني مكبلًا مقصيًا بين ظلام ليلة وضوء شمعة , ولما سألته عن الأثر, دعاني إلى رقصة غجرية تهجو فيها الأماني في قلادة أجراس , وفي هذا التجلّي, وفي حضور ما يملأ كل الغياب , يكمن الرجاء, الرجاء في تجاوز العبارة الضيقة إلى الرؤيا الواسعة , الرجاء في أن يرتفع إيقاع التجربة بين أبيات القصائد , حتى وإن عجز اللسان عن ترجمتها , الرجاء أن نصبح أرواحًا متأملة لا أصابع تنقر , وأن نجد معنى الخلود في صمت الروح المتسعة , لا في ضجيج الكلمات الزائلة.

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَقَامَةُ الْأَحْفَادِ وَمَتَاعِبِ الْأَجْدَادِ .
- مقامة شذرات من السيرة الذاتية .
- مقامة نجاة الصغيرة : ( الضوء المسموع ) , وهمسٌ يغوص في أعماق ...
- المقامة البغدادية في تَلَوُّنِ الأوطانِ وبكاءِ الأحياءِ .
- مقامة أللاأنجابية : في زمن الروبوتات والمنتحرين .
- مقامة الهدم: جرافات تهاجم ذاكرة العراق الثقافية .
- مقامة ابن باديس والتنوير: الأذهان أولاً , ثم الأوطان .
- مقامة الفصام .
- مقامة العطارين : أسرار عمرها 4600 عام .
- مَقَامَةُ حِكَايَاتِ النَّمْلِ .
- مقامةُ الرجاءِ في زمنِ الحيْصَ بيْص .
- مقامة السلطة والفكر .
- مقامة غادة وغسان : حقيقة الحب ووهم الوصال .
- مقامة اكسير الشباب .
- مقامةُ الشَّيخِ في ذمِّ الرَّشوةِ وتزيينِها بالهديَّة .
- مقامة دزني .
- مقامة لعّابة الصبر : العراق و سَوْط حقيقة الحكايات الصارخ .
- مقامة الخطو للوراء .
- مقامة جيل Z: رؤيا شيخ في آخر الزمان .
- مقامة المندلاوي في (( نَجْوَى الصَّمْتِ الهَادِي )) .


المزيد.....




- مهرجان الفيلم بمراكش يكشف عن أفلام دورته
- ماذا نعرف عن -الديموقراطية التمثيلية- التي أسقطها ممداني؟
- -الخارجية- ترحب باعتماد اليونسكو 4 قرارات لصالح فلسطين: انتص ...
- الفنان المصري ياسر جلال يعتذر عن تصريحاته بشأن دور الجزائر ب ...
- ياسر جلال: رواية -غير مثبتة- عن دور للجيش الجزائري في القاهر ...
- مهرجان فلفل إسبيليت الأحمر: طعام وموسيقى وآلاف الزوار
- فيلم وثائقي يعرض الانهيار الأخلاقي للجنود الإسرائيليين في حر ...
- من -سايكو- إلى -هالوين-.. لماذا تخيفنا موسيقى أفلام الرعب؟
- رام الله أيتها الصديقة..!
- ياسر جلال يعتذر عن معلومة -خاطئة- قالها بمهرجان وهران للفيلم ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة العبارة الضيقة : ما أوسع رؤيتها ؟