أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الفصام .














المزيد.....

مقامة الفصام .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8510 - 2025 / 10 / 29 - 15:02
المحور: الادب والفن
    


مقامة الفصام :

حدثنا الإدراك بن التنوير, قال : كنتُ أمشي ذات ليلةٍ في رياض العقل , وقد أَلِفْتُ وحدتي , وزهدتُ في خَلْقي , فبينما أنا أُقلّبُ طرفي في بساتين الأفكارِ , وأُناجي أسرارَ الأقدارِ , إذ لاحتْ ليَ خيمةٌ شامخةٌ , عليها رايةٌ باليةٌ , مكتوبٌ عليها بحبرِ الغفلةِ : (( دارُ الانفِصامِ )) , فأزْمَعْتُ الدخولَ لأستجليَ الخَطْبَ , وأستكشفَ العِتْبَ , فإذا شيخٌ مُقعَدٌ , عليه سيماءُ الوحدةِ والجمودِ , يُدعى (( أبو العزلةِ بنِ البرودِ )) , فسألتهُ عن حالهِ ومآلهِ , وعن سِرّ انفرادهِ واعتزالهِ , فقال أبو العزلةِ بصوتٍ خافتٍ , كهمسِ القلقِ والأسفِ : (( يا ولدي , إنّي أسكنُ في وطنِ الفَصامِ , الذي يُعلي فيه القومُ صَرْحَ الأوهامِ , لقد أيقنتُ أنّ العقلَ بيتُنا الحقيقيُّ , وحِصْنُنا الوثيقُ , فمن هذا المنطلقِ , اختلفْتُ مع الحكيمِ غاندي في مقولتِهِ , إذ قال : ((لا أسمحُ لأيِّ إنسانٍ أن يدخلَ عقلي بأقدامٍ مُتَّسِخةٍ)).

فقلتُ له : وبِمَ اختلفْتَ مع ذلك الحكيمِ , يا أبا العزلةِ ؟ فقال , وهو يضربُ يداً بيدٍ أسفاً : اختلافي أنّي لا أسمحُ لأحدٍ أن يدخلَ عقلي مُطلقاً , ولو بأقدامٍ من الفُلِّ والياسمينِ , إنّ قوماً يفرضونَ على ضيوفِهِم خَلْعَ الأحذيةِ على عتبةِ الدارِ, خوفاً من الأوحالِ والأقذارِ, ويا ليتَهُمْ يفعلونَ ذلكَ مع عقولِهِمُ التي هي مَهْبِطُ الوحيِ ومنزلةُ القرارِ , أفلا يَرونَ كمْ من مَغْفولٍ يتلقّفُ قمامةَ العقولِ ومُخلّفاتِ الفكرِ, ويروّجُها بالضياءِ والزّهرِ, بلادٌ تَشُمُّ العطورَ على تلكَ القمامةِ المُتراكِمةِ , وتلكَ الهزيمةُ القاتمةُ , وبلادٌ لا تَنامُ في فِراشٍ واحدٍ مع أوساخِ الأذهانِ , فتفوزُ كلَّ يومٍ بانتصاراتِ الوجدانِ , ألا يعلمونَ أنّ العقلَ كالمظلّةِ , لا يعملُ إلا إذا انفتَحَ , ولا ينفتحُ إلا بالتخلّصِ من الأدرانِ التي عَبرَتْ عليهِ مع الأزمانِ ؟

ثمّ تنهّدَ أبو العزلةِ وقال : وهلْ رأيتَ يا صاحبي , حالَ المُضلِّلينَ والسّلبيّينَ في المُجتمعاتِ؟ فقلتُ: وما شأنُهُمْ ؟ قال : إنّهم كـ (( التفّاحةِ العَفِنَةِ )) التي تُفسِدُ سائرَ التفّاحِ , لقد عَلِمَتْ البشريّةُ قاطبةً هذا السرَّ منذُ الأزلِ , لكنْ جاءَ علماءُ العصرِ فوضعوا لهُ دليلًا علميّاً , ورسَمُوا لهُ برهاناً مَرْضِيّاً , إذ وجدوا أنّ إضافةَ شخصٍ سلبيٍّ عمداً إلى فِرَقِ العملِ , يؤدّي إلى تدهورِ الأداءِ , وارتفاعِ حِدّةِ النّزاعِ والشقاءِ , فكيفَ بمجتمعٍ غَالِبُهُ فصاميّونَ في سَلْبِيّتِهِمْ مُتطرّفُونَ؟

هنا ارتفعَ صوتُ الشيخِ قليلاً , واستدارَ نحوي قائلاً : ليتَ الأمرَ يقتصرُ على سلبيةِ الأفرادِ , بل إنّنا نعيشُ مأساةً مُزدوجةً في مجتمعاتِنا , ثنائيّةَ الخرافةِ والحقيقةِ , والوعيِ والجهلِ , إنّ الإنسانَ العربيَّ كائنٌ فصاميٌّ في إيمانِهِ , يُنكرُ الخرافةَ جِهاراً , ويؤمنُ بها سِراراً , يُبرّرُ وَهَنَهُ بالقَدَرِ والضَّرورةِ , ثمّ يلبسُ قناعَ الحُرّيةِ الزّائِفةِ المَخْبُوتةِ , إنّهُ الإنسانُ المقهورُ الذي يَبْحثُ عن الخلاصِ من فَقْرِهِ وانكساراتِهِ , في رحلةِ وجودٍ كصحراءَ يَلْتَمِسُ فيها المعنى والماءَ والحقيقةَ , تراهُ يَلتقي في دربِهِ بـ شجرةِ التُّفاحِ المُتحجّرةِ التي تُمثّلُ المعرفةَ المحرّمةَ , وبـ التفّاحةِ المَرمَرِيّةِ التي تُمثّلُ الوهمَ المُزيّنَ , ويَسْمعُ صَوتَها الغامضَ الذي يُجسّدُ الوَعْيَ الباطنيَّ الذي يَحْذَرُ من الانْسياقِ وراءَ المادّةِ.

إنّها بلادُ (( الضوءِ المُزيَّفِ )) التي لا تُنيرُ, بلادٌ تفيضُ بالنّورِ , لكنّها لا تَعرفُ الفجرَ, إنّهُ الشّروقُ الكاذبُ الذي لا يَهدي إلى اليَقينِ , فماذا ينتظرُ الإنسانُ المقهورُ الذي اغتربَ في ذاتِهِ ومُجتمعِهِ , حينَ يَنزلقُ من البحثِ عن الكرامةِ إلى الانخداعِ بالثّروةِ والجاهِ والفسادِ ؟ أليسَ هذا سقوطاً أخلاقياً وفِقْداناً للهوِيّةِ , يُطرحُ معهُ السّؤالُ : هل الخلاصُ ممكنٌ في مجتمعٍ يؤمنُ بالخرافةِ أكثرَ من الحقيقةِ؟

وأخيراً , أشارَ الشيخُ بيدِهِ نحو رُكنٍ مظلمٍ وقال : يا بُنيّ , إنّ الجهلَ الذي يُؤدّي إلى هذا الفِصامِ ليسَ لهُ سِلاحٌ مَرئيٌّ , ولا يَدخلُ المُدُنَ على دَبّابةٍ أو مَرْكَبَةٍ , بل يزحفُ كالدُّخانِ , هادئاً , ناعِماً , قاتِلاً , إنّهُ يَنتصِرُ حينَ يتثاءَبُ العقلُ , ويَنامُ الضميرُ , ويُصفَّقُ للجُهلاءِ لأنّهُم (( أبناءُ الواقِعِ )) يَنتصرُ حينَ يَختفي السّؤالُ ,وتُكَفَّنُ الحقيقةُ , ويُخوَّنُ المُفكّرونَ , ويُرَشَّحُ الصّامتونَ , إنّهُ أسلوبُ التّجهيلِ الذي يُخدِّرُ النّاسَ ويُضلّلُهُم باستخدامِ الدّينِ لمَصالحَ دنيويّةٍ لا تَمُتُّ إلى جَوْهرِ الدّينِ بِصِلةٍ.

لكنْ , لا بُدّ أن ينقلبَ السِّحرُ على الساحرِ حتّى لو بعدَ حِينٍ , فقد صدقَ الشّريفُ الرّضيُّ حينَ رأى (( جُنودَ الجهلِ غالبةً )) , وصدقَ المَعَرّيُّ حينَ (( تَجاهلَ حتّى ظُنَّ أنّهُ جاهِلُ )) , وصدقَ الأفوهُ الأوديُّ قَبلَ الإسلامِ حينَ قال : (( لا يصلحُ النّاسُ فوضى لا سُراةَ لهم/ ولا سُراةَ إذا جُهّالُهم سادوا )) , فالسُّؤْدَدُ إنّما يكونُ بـ العقلِ اليَقِظِ , لا بـ الجهلِ المُزمِنِ .

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة العطارين : أسرار عمرها 4600 عام .
- مَقَامَةُ حِكَايَاتِ النَّمْلِ .
- مقامةُ الرجاءِ في زمنِ الحيْصَ بيْص .
- مقامة السلطة والفكر .
- مقامة غادة وغسان : حقيقة الحب ووهم الوصال .
- مقامة اكسير الشباب .
- مقامةُ الشَّيخِ في ذمِّ الرَّشوةِ وتزيينِها بالهديَّة .
- مقامة دزني .
- مقامة لعّابة الصبر : العراق و سَوْط حقيقة الحكايات الصارخ .
- مقامة الخطو للوراء .
- مقامة جيل Z: رؤيا شيخ في آخر الزمان .
- مقامة المندلاوي في (( نَجْوَى الصَّمْتِ الهَادِي )) .
- مقامة الى أبو أيفانكا : في ذمّ الادارة غير الجادة وغير المسؤ ...
- مقامة الرضا في مقهى بغداد الفاضلة .
- مَقَامَةُ الجُهَّال .
- مقامة طوبى : في ذكر حال الأنام والآمال العِظام .
- المقامة الإقصائية .
- المقامة الإسلاسية .
- مقامة ترانيم الخريف .
- مقامة فن الصياغة : الوافي بوفيات الصفدي مثلا .


المزيد.....




- كاتب نيجيري حائز نوبل للآداب يؤكد أن الولايات المتحدة ألغت ت ...
- إقبال كبير من الشباب الأتراك على تعلم اللغة الألمانية
- حي الأمين.. نغمة الوفاء في سيمفونية دمشق
- أحمد الفيشاوي يعلن مشاركته بفيلم جديد بعد -سفاح التجمع-
- لماذا لا يفوز أدباء العرب بعد نجيب محفوظ بجائزة نوبل؟
- رئيسة مجلس أمناء متاحف قطر تحتفي بإرث ثقافي يخاطب العالم
- رئيسة مجلس أمناء متاحف قطر تحتفي بإرث ثقافي يخاطب العالم
- مشاهدة الأعمال الفنية في المعارض يساعد على تخفيف التوتر
- تل أبيب تنشر فيلم وثائقي عن أنقاض مبنى عسكري دمره صاروخ إيرا ...
- قراءة في نقد ساري حنفي لمفارقات الحرية المعاصرة


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الفصام .