أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الفلْس الدّوّانِقِي : نوادر البخلاء ومآثرهم .















المزيد.....

مقامة الفلْس الدّوّانِقِي : نوادر البخلاء ومآثرهم .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 11:44
المحور: الادب والفن
    


قالَ الشيخ الحكيم : لمّا رَفعتُ الطرفَ يوماً , ونظرتُ في حالِ الورى , وجدتُ آفةً لا تُقارَنُ ببلَى , وسِمَةً تَبْعَثُ على النّفورِ والجَفا , وهي صِفَةُ البُخلِ الشّنيعِ التي تُورِثُ الفقرَ في ذاتِ المُغني والمُوسِعِ , وتَجعلُ صاحبَها بشحمِهِ ولحمِهِ أضيقَ من الإبرَةِ وأبخلَ من القِطَّةِ على الفأرةِ , وقد سَجّلَ الأدبُ فيها قصصاً تُضحِكُ وتُبكِي , وطرائفَ تُدهِشُ وتُروَى , فدعوتُكَ أيّها السّامعُ الكريمُ لأُتحِفَكَ ببعضِها , وأُسْمِعَكَ فصلاً من أخبارِ أهلِ الكِيسِ الشّحيحِ واليَدِ القابِضةِ , على بركةِ اللهِ نَسيرُ ونُبْحِرُ في هذا المَقامِ الغريبِ والوصفِ العجيبِ.

تظلُّ صفةُ البُخل من أشدّ الصفاتِ النفورِ في النفس البشرية , وأكثرِها إثارةً للطرائفِ الأدبية والقصصِ الساخرة , فلقد نال البخيلُ حظاً وافراً من سخرية الشعراء ونقدِ الأدباء , بدءاً من الحِكمة الموجزة وصولاً إلى المجلدات الشارحة , وفي شعر الهايكو مقطعٌ يختزلُ هذه الحقيقة بمرارةٍ وعُمق : (( لا تستجدي الماءْ من أنهارِ البُخلاءْ عمّتُنا النخْلةْ )) , أما شاعر الحكمة أبو العتاهية فقد جسّد مأساة البخيل ببيتٍ بليغ , يرى جامع المال المكدود تاركاً إياه للوارثين : (( أرى جامع المال المكدود تاركاً به بعد جهدٍ كلَّ ما كان جمعا , كذي العير يحمي العير من كل طارقٍ ويتركها للوارثين جميعاً , ويُشاركه المتنبي الرأي مُبيّناً أنَّ الخوف من الفقر هو الفقرُ بعينه : (( ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر)) .

قد يُصادفك البخل في أبسط المواقف وأكثرها يومية , وفيها يظهر النهم لحبة القمح أو لقمة الدجاج , فمن طرائف البخلاء قصة مدرسٍ دُعي إلى الغداء في إحدى القرى , استقبله والد الطالب بحفاوة في غرفة المضافة , وإذ بالطعام لا يتعدى صحناً من البُرغل مع وعاءٍ من اللبن , وبعد أن تناول المدرس القليل مجاملةً , سمع زوجة المضيف تسأل: ((هل أُحضر الدجاج؟ )) فيرد الزوج : (( لا , ما زلنا نأكل البرغل )) , وعندما كرر المدرس طلبهُ بالدجاج طمعاً , لم يتلقَ سوى نظرة قاسية , فلما ضاق صدر المدرس وقال : (( لقد شبعتُ الحمد لله )) , نادى الرجل زوجته قائلاً : (( أحضري الدجاج )) , وهنا كانت الدهشة الكبرى , حين أدخلت الزوجة دجاجاً حيّاً إلى المضافة ليأكل ما تبقّى من حبات البرغل على المائدة .

خصَّص الجاحظ في كتابه الشهير البخلاء حيزاً واسعاً لطرائف أهل خُراسان , وتحديداً أهل مَرْو , مؤكداً أنَّ البخل صار شيئاً في طبع البلاد : ومنها حيلة الضيف المروزي : يسأل المروزي ضيفه الذي طال جلوسه : (( تغدّيت اليوم؟ )) فإن قال : (( نعم )) , قال له : (( لولا أنك تغديت لغدّيتك بغداء طيب )) , وإن قال : (( لا )) , قال له : (( لو كنت تغديت , لسقيتك خمسة أقداح )) , فلا يُطعمه في كلتا الحالتين , وهناك عقوبة شريك النور في قصة المصباح , اتفق جماعة من الخراسانيين على تحمل الظلمة , وعندما نفد صبرهم قرروا شراء مصباح , إلا واحداً أبى أن يشارك , فما كان منهم إلا أنهم شدّوا عينيه بمنديل عندما يضاء المصباح حتى لا يستفيد من النور الذي لم يدفع فيه شيئاً , وحكاية ديكة مَرْو, يروي ثمامة بن أشرس النمري أنَّ ديكة كل بلدة تأخذ الحبة بمنقارها ثم تلفظها لقدام الدجاجة , (( إلا ديكة مرو , فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب )) .

ومن أعاجيبِ البُخلِ أنّهُ لا يقتصرُ على البالِغِ بل قد يتسرّبُ إلى نُفوسِ الصّبيةِ والوِلدانِ , فيَنشأُ الشّابُ على حِرصِ الآباءِ وشُحِّ الأجدادِ , وقد ذكرَ بعضُ الرّواةِ عن رجلٍ بخيلٍ كانَ يحملُ ابنهُ الصّغيرَ إلى السوقِ , فإذا مرّا بباكستانيٍ يبيعُ خبزَ الشّاورما , قالَ الأبُ لابنِهِ: (( يا بُنيَّ , ألَمْ تَشُمَّ رائِحةَ الطّعامِ الطّيّبِ؟)) , فيردُّ الابنُ وقد تَذَوَّقَ شُمَّ الرّائِحةِ بملءِ صَدرِه: (( بلى يا أبي )) , فيقولُ الأبُ وهو يبتسِمُ: (( هنيئاً لكَ يا ولدي , فقد أكلتَ , أمّا أنا فسأكتفي بالشُّمِّ على عادةِ أهلِ خُراسانَ , لنوفّرَ ثمنَ غدائنا هذا اليومَ )) , فصارَ الامتِناعُ عن الطّعامِ أُسلوباً يُورَّثُ ويُتَناقَلُ , ويُصبحُ الشُّحُ صنعةً وحِكمةً يُعلّمُها الآباءُ للأبناءِ , ليَضمنوا لهم طولَ البقاءِ على شِظَفِ العيشِ وقلةِ الإنفاقِ , فكُلُّ فِلْسٍ مُدَّخَرٍ هو سَيْفٌ مُشْهَرٌ في وجهِ الزّمانِ.

لم يقتصر البخل على العوام , بل وُجد في صفحات التاريخ والسير, فقد لُقّب الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بالدوانيقي لشدة حرصه وتدقيقه في صرف الدوانيق ( العملة الصغيرة) , فصار لقباً يُلاصقه , لُقّب أشعب بـ (( أشعب الطمع )) نظراً لقصصه التي اشتهر فيها بالطمع الشديد والبخل , في المقابل , كان حاتم الأصم شخصيةً تُعرف بالبخل لدرجة أنه كان يَصُمُّ أذنيه عندما يأتيه سائل كي لا يسمع طلبه , والبخل صفة ذميمة تنفر منها النفوس , وقد أثّرت على سلوك الفرد في الحياة المعاصرة , فنجد صوراً له تتجلى في : الشخص الذي يرفض مشاركة أصدقائه في دفع فاتورة المطعم , رغم أنه تناول أكثرهم ,ومن يرفض شراء دواء ضروري لنفسه أو لأحد أفراد عائلته بحجة أنه مُكلف , من يطفئ المكيفات في منزله في عز الصيف لتوفير الكهرباء , وقد جسّدت الأمثال الشعبية شدة هذا الطبع , فقيل عن البخيل : (( فلان كأنه يعد أنفاسه )) , كناية عن شدة الحرص , و (( البخيل عينه على الفلس )) .

وإلى هنا أيّها القارئُ الفاضلُ , نكونُ قد طوينا صفحةً من كتابِ البُخلاءِ المُلْتَفَّةِ أوراقُهُ , ورأينا كيفَ أنَّ الشُّحَّ يورثُ صاحبهُ الذُّلَّ والهوانَ , ويجعلُهُ فقيراً وإن كانَ مَلِيئاً ومُوسِراً, و البخيل يعيش حياة ضيقة مملوءة بالهموم والأحزان , ويفقد محبة الناس واحترامهم , وعلى مستوى المجتمع , يؤدي البخل إلى انتشار الفقر والشقاء , ويعيق التقدم والازدهار , فاحذرْ يا صاحبي أنْ تكونَ ممنوعاً من خيرِ نفسِكَ , أو محروماً من لذّةِ الإنفاقِ والبَذلِ , فالعطاءُ ليسَ نقصاً من المالِ , بل هو سَبيلٌ إلى البَرَكَةِ وطولِ الآجالِ , وتذكّرْ قولَ القائلِ في حكمةٍ بالغةٍ : إنّ البخيلَ يجمعُ لغيرهِ , ولا يتمتّعُ بخيرِ يديهِ.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامةُ الأفندي تحسين في بَتانِ بغدادَ وبَطِّها .
- الغطرسة : الداء والجلاء .
- مقامة العبارة الضيقة : ما أوسع رؤيتها ؟
- مَقَامَةُ الْأَحْفَادِ وَمَتَاعِبِ الْأَجْدَادِ .
- مقامة شذرات من السيرة الذاتية .
- مقامة نجاة الصغيرة : ( الضوء المسموع ) , وهمسٌ يغوص في أعماق ...
- المقامة البغدادية في تَلَوُّنِ الأوطانِ وبكاءِ الأحياءِ .
- مقامة أللاأنجابية : في زمن الروبوتات والمنتحرين .
- مقامة الهدم: جرافات تهاجم ذاكرة العراق الثقافية .
- مقامة ابن باديس والتنوير: الأذهان أولاً , ثم الأوطان .
- مقامة الفصام .
- مقامة العطارين : أسرار عمرها 4600 عام .
- مَقَامَةُ حِكَايَاتِ النَّمْلِ .
- مقامةُ الرجاءِ في زمنِ الحيْصَ بيْص .
- مقامة السلطة والفكر .
- مقامة غادة وغسان : حقيقة الحب ووهم الوصال .
- مقامة اكسير الشباب .
- مقامةُ الشَّيخِ في ذمِّ الرَّشوةِ وتزيينِها بالهديَّة .
- مقامة دزني .
- مقامة لعّابة الصبر : العراق و سَوْط حقيقة الحكايات الصارخ .


المزيد.....




- هل تحلم بأن تدفن بجوار الأديب الشهير أوسكار وايلد؟ يانصيب في ...
- مصر.. انتقادات على تقديم العزاء للفنان محمد رمضان بوفاة والد ...
- الإمارات.. جدل حكم -طاعة الزوج- ورضى الله وما قاله النبي محم ...
- ساحة المرجة.. قلب دمشق النابض بتاريخ يتجدد
- جلسة شعرية تحتفي بتنوع الأساليب في اتحاد الأدباء
- مصر.. علاء مبارك يثير تفاعلا بتسمية شخصية من -أعظم وزراء الث ...
- الفيلم الكوري -أخبار جيدة-.. حين تصنع السلطة الحقيقة وتخفي أ ...
- بالاسم والصورة.. فيلم يكشف قاتل شيرين أبو عاقلة
- السباق نحو أوسكار 2026 ينطلق مبكرًا.. تعرف على أبرز الأفلام ...
- إطلاق الإعلان الترويجي الأول للفيلم المرتقب عن سيرة حياة -مل ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الفلْس الدّوّانِقِي : نوادر البخلاء ومآثرهم .