أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة لمحات من ذلك الزمان : أحداث ورجاء .















المزيد.....

مقامة لمحات من ذلك الزمان : أحداث ورجاء .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 11:38
المحور: الادب والفن
    


حدثنا الإخباريُّ أبو الرجاء , بينما كنا نقتسم خبزةً في زمنٍ تكدّس فيه الكلام , واختلط فيه الغثُّ بالسمين , وتهاوت فيه الحكمة بين أنامل السُّفهاء , فقال : (( يا صاح , تظلُّ قصص وأمثال وأحداث الأولين بمثابة شرفات نُطلُّ بها على وجدان تلكم الأيام , أيام كانت فيها الجرأة والصدق أثمن من الذهب , والخوفُ من العار أرقى من الخوف من الموت , اسمعْ بعضَ ما بقي لنا من تلك الشُرفات )) .

جرأةٌ على مائدة العُرف .
قال : ومما رُويَ في صِدقِ الموقف وبراءة الفعل , ما كان في سوق عكاظ , مَحطِّ العرب وموسمِ شعرهم وفخارهم , زعموا أن جارية بن سليط بن الحارث , وكان أحسن الناس وجهاً وأمدَّهم جسماً , أتى عكاظ , فأبصرته جاريةٌ من خثعم , فأعجبها وتلطّفت له حتى وقع عليها , فلما فرغت , قالت : (( إنك أتيتني على طُهر , وإني لا أدري لعلّي سأعلَقُ لك ولداً , فموعدك فصال ولدي إن حملت لك )) , فلما وافى جاريةٌ عكاظَ لرأس ثلاثة أحوال , وجدها قد ولدت غلاماً وفطمته , فأقبلت الجارية ومعها أمّها وخالتها يلتمسنه بعكاظ حتى رأتهُ الجارية وعرفته , فلما رأته , قالت: (( هذا جارية )) , وهنا نطقت الأمُّ بالقول الذي جرى مجرى المثل في الجرأة والافتخار بصدق الوعد والنسب , فقالت: (( بمثل جارية فلتزن الزانية سراً أو علانية )) , ثم دفعن إليه الغلام فسماه عوفاً , فشَرُف وساد قومه , وهو عوف الأصم , فقلتُ : يا أبا الرجاء , ما أصدقَ موقفَ الأمّ , وما أغربَ زمنَها .
حكمةٌ من فم ماجنٍ .

ثم قال : ومما يدلُّ على أن الحكمة قد تنبعُ من أقسى الأماكن , وأنه لا عجب أن تخرج الحكمة أحياناً من أفواه المستهترين , ما كان من أمر الوليد بن يزيد الشاعر الخليفة الأموي , لقد كان الوليد هذا مُتهتّكاً مُستهتِراً لا يرعى ذمّةً ولا ضميراً , ولكنه كان له في الشعر والحكمة أقوالٌ حكيمة , قال هذا الماجنُ ابن يزيد: (( تمنيت لو أن كل كأس خمرٍ بدينار ذهب , وكل (فَرجٍ) في فم أسد , فلا يشرب إلا كريمٌ ولا ينكح إلا شُجاع )) , قلتُ: صدقَ في جوهر القول , وإنْ كان مَساقُه فُجوراً , ولو كان في زماننا لأضاف : (( وكل حساب فيسبوك كذلك )) , فلا يكتبُ إلا كريمٌ وشُجاعٌ يخشى على نفسه من النذالة .

الزمانُ الذي تغيّر.
ثم التفتَ أبو الرجاء إليَّ بأسى وقال : أتدري متى كانت الرجولةُ تُقاس بغير ما نُقيسها به اليوم ؟ إن الزمانَ قد تغيّر, والعقول قد تبدّلت , لقد قرأتُ في كتب الحكماء ما لا يكادُ يُصدَّق في زمننا هذا , زمن الاكتفاء بزوجة واحدة , فأنظر ماذا قالوا , قال ابن سينا: (( إن الرجل إذا كانت له زوجة واحدة ابتُلي في جسده ونفسه , أدركه الهرم وهو في عنفوانه , شكى من داء العظام , وكَثُرَ يأسُه , وقلّت حيلته , وذهبت بشاشته , وصار كثير التذمر والشكوى )) , وقال القاضي أبو مسعود : (( من كانت له زوجة واحدة لا يَصلح للقضاء ولا الفَصل بين الناس )) , وقال ابن حيان التوحيدي : (( أدركت قوماً لا يجلسون بينهم من كانت له زوجة واحدة , يَحسَبونهم من صغار الناس )) , وقيل للمأمون بن هارون الرشيد: (( إن بالبصرة أقواماً الرجل ما له إلا زوجة واحدة , قال: ما هم برجال , أما الرجال فهن زوجاتهم , يُخالفون الفِطرة والسُنّة )) , وسُئل ابن فياض عن رجال لهم زوجة واحدة ؟ فقال: (( أولئك أموات يأكلون ويشربون ويتنفسون )) , ثم قال أبو الرجاء : يا ولدي , قد اختلفت المقاييس , فما كان كمالاً صار ترفاً , وما كان سُنّةً صار مُنكَراً.

التفاخرُ البغيض وأشدُّ الهجاء.
تنهَّد أبو الرجاء , وقال : وكم من كلمةٍ كانت أشدَّ من ألفِ سيف , وفي هذا الزمانِ كَثُرَ التفاخر الكاذبُ وقلَّ الهجاءُ الصادقُ الذي يُوجع الكَبِد , ومما يُروى في أشدِّ الهجاء , قصّة يحيى بن خالد البرمكي , الذي وعد رجلاً بالوفاء بعهده مراتٍ دون أن يفعل , فقام الرجل بكتابة هذا البيت : (( البَرمَكِيّون لا يُوفُون ما وَعَدُوا والبرمكيّاتُ لا يُخْلِفْنَ مِيعادَا )) , فلما قرأها البرمكي , اغتمَّ جداً وقال: (( وددتُ أني افتديتُ هذا البيت بما أملك )) , فقد جعلَ عدمَ وفاء الرجال من آلِه خُلُقاً , وقرنه بوفاءِ نسائهم , وهو تفاخرٌ بغيضٌ وهجاءٌ جارح , ثم تذكّر قولَ سِفر الأمثال : (( الكبرياء تسبق الكسر, وروح التعاظم تسبق السقوط )) , وذكرَ ما رواه ابن حمدون عن قصيدة إسماعيل بن يسار التي يفخر فيها بالفرس على العرب ومنها : (( إذ نُربّي بناتنا وتدسّون سفاهاً بناتكم في التراب )) , وكيف ردَّ عليه العربيُّ بقطعٍ موجعٍ أشدَّ من الهجاء , فقال : (( لأن حاجتنا إلى البنات غير حاجتكم )) , يعني أنهم ينكحون بناتهم , فبالغَ في الردِّ حتى فاق التفاخرَ في السوء.

وختامُ القولِ ومسكُ الختام , قال أبو الرجاء , وهو يرفعُ يديه إلى السماء وكأنما يستمدُّ منها حكمةً خالصةً لزمنٍ مضطرب : (( يا صاح , إنَّ النظر في تلك اللمحات -وما هي إلا قليلٌ من كثيرٍ- لَيَبعثُ في النفسِ رجاءً لا يخبو , وطمعاً بأن نستلهمَ من تلك العصورِ عِظةً تقوّمُ اعوجاجَ حاضرنا , فكمْ رأينا من جرأةٍ فاقتْ خوفَ العارِ والخزي , كجرأةِ أمِّ عوفٍ التي أعلنت نسبَ ابنها على الملأ , في موقفٍ صدقٍ أذهلَ أهلَ عكاظ , مُعلنةً أنَّ الصدقَ في الموقفِ أثمنُ من سِترِ الزيف , وهذه الحكمةُ التي تسللتْ من فمِ ماجنٍ كابنِ يزيد , تُنبّهنا إلى أنَّ الجوهرَ قد يضيءُ ولو انبعثَ من أقسى الأماكن , وأنَّ ميزانَ الصدقِ والشجاعةِ لا يختلُّ حتى وإنْ كانت الكلماتُ في سياقِ فجورٍ , لكنّ الأسى كلَّ الأسى , على زمانٍ تغيَّرتْ فيه المقاييسُ , وتبدّلت فيه مفاهيمُ الرجولةِ والكمالِ , فصارَ ما كانَ فخراً وكمالاً –كالتعدُّدِ- مُنكَراً وشكوى , وما كانَ هَديَ الحكماءِ صارَ غريباً في هذا العصرِ الذي اكتفى بالناقصِ وزهدَ في التامِّ , ويا صاح , احذرْ أشدَّ الحذرِ من التفاخرِ البغيضِ الذي جرَّ الويلاتِ , ومن الكلمةِ الجارحةِ التي قد تُشبهُ الهجاءَ الصادقَ في قوتها , فتهدِمُ ما لم تهدمه آلافُ السيوف , فلنحذرْ الكبرياء التي تسبقُ الكسرَ , ولنتذكّرُ دائماً مصيرَ البرامكةِ حينَ وُضِعَ رجالهم في كفّةِ عدمِ الوفاءِ , ونساؤهم في كفّةِ الوفاءِ , فكانت تلك الكلمةُ أشدَّ عليهم من الموت , فيا ولدي , تمسَّكْ بالجوهرِ لا المظهرِ , وكنْ أشجعَ وأصدقَ ممن حولك , فكم سقطتْ من أممٍ كانت تظنُّ نفسها فوقَ القوانينِ والمقاييس , وظنَّتْ أنَّ الترفَ كمالٌ , وأنَّ الكذبَ دهاءٌ , فلتكنْ لمحاتُ تلك الأيامِ نُوراً ورجاءً لنا , نستضيءُ به لِنُعيدَ للصدقِ ثمنَه , وللشجاعةِ قدرَها , وللحكمةِ مكانَها , قبلَ أنْ نُصبحَ نحنُ الأحاديثَ التي تُروى بعلاماتِ التعجُّبِ والاستغرابِ في زمنٍ آتٍ .

صَبَاحَ الزُّهَيْرِيِّ .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة الخبب : في رحلة العمر والأدب .
- مقامة القيمر الأسمر.
- مقامة الفلْس الدّوّانِقِي : نوادر البخلاء ومآثرهم .
- مقامةُ الأفندي تحسين في بَتانِ بغدادَ وبَطِّها .
- الغطرسة : الداء والجلاء .
- مقامة العبارة الضيقة : ما أوسع رؤيتها ؟
- مَقَامَةُ الْأَحْفَادِ وَمَتَاعِبِ الْأَجْدَادِ .
- مقامة شذرات من السيرة الذاتية .
- مقامة نجاة الصغيرة : ( الضوء المسموع ) , وهمسٌ يغوص في أعماق ...
- المقامة البغدادية في تَلَوُّنِ الأوطانِ وبكاءِ الأحياءِ .
- مقامة أللاأنجابية : في زمن الروبوتات والمنتحرين .
- مقامة الهدم: جرافات تهاجم ذاكرة العراق الثقافية .
- مقامة ابن باديس والتنوير: الأذهان أولاً , ثم الأوطان .
- مقامة الفصام .
- مقامة العطارين : أسرار عمرها 4600 عام .
- مَقَامَةُ حِكَايَاتِ النَّمْلِ .
- مقامةُ الرجاءِ في زمنِ الحيْصَ بيْص .
- مقامة السلطة والفكر .
- مقامة غادة وغسان : حقيقة الحب ووهم الوصال .
- مقامة اكسير الشباب .


المزيد.....




- الفنان المغترب سعدي يونس : مثلت مع مائدة نزهت، وقدمت مسرحية ...
- لبنان.. تقليد الفنان صلاح تيزاني -أبو سليم- وسام الاستحقاق
- فيلم -ذا رَننغ مان-.. نبوءة ستيفن كينغ تتحوّل إلى واقع سينما ...
- -العطر والدولة- لكمال القصير يبحث في تناقضات وتحولات الوعي ا ...
- مؤسسة منتدى أصيلة تفوز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون ...
- فيلم ”نسور الجمهورية” في مهرجان ستوكهولم السينمائي
- هل انتهى عصر الألعاب حقًا؟.. الشاشات هي العدو في الإعلان الت ...
- -شر البلاد من لا صديق بها-.. علاقة الإنسان بالإنسان في مرآة ...
- غانا تسترجع آثارا منهوبة منذ الحقبة الاستعمارية
- سرقة قطع أثرية ذهبية من المتحف الوطني في دمشق


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة لمحات من ذلك الزمان : أحداث ورجاء .