أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - انتظر .... عسى الله يفرجها














المزيد.....

انتظر .... عسى الله يفرجها


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8464 - 2025 / 9 / 13 - 03:06
المحور: الادب والفن
    


كلّ جمعة، كان أبو مصطفى يفترش بضاعته من السبح والعقيق على رصيف المتنبي. يجلس مبتسمًا للمارّة، يمازحهم، لكنه في داخله يفتّش عن وجه لم يعد.
وجه ابنه مصطفى، الذي رحل ذات صباح للدفاع عن الوطن ولم يعد له أثر.
لا يزال يتذكّر ذلك الصباح جيدًا.
حين دخل مصطفى البيت بخطواتٍ متثاقلة، يحمل في عينيه بريقًا غريبًا بين الحماسة والخوف. جلس أمام أبيه وقال بصوت حاول أن يجعله ثابتًا:
ـ "بوية… عندنا أمر بالذهاب الى للجبهة."
كادت الكلمات تخنق العجوز. ظلّ يحدّق في ابنه، ثم قال برجاء:
ـ "مصطفى… ظل بابا ، الحرب ما تجيب غير الموت."
ابتسم الابن، قبّل يد أبيه ورأسه، وهمس:
ـ "لا تخاف… قريبا وأرجع."

كانت تلك ال( قريبا ) آخر ما تبقى منه. غادر البيت ولم يعد، ومنذ ذلك اليوم صار الانتظار مهنة أبي مصطفى، والسبح التي يبيعها ملجأ يخبّئ فيه رعشة أصابعه.
وبعد أسابيع، واشهر ، ومرت سنة . لم يصلهم سوى الجملة المقتضبة من أحد رفاقه:
ـ "انتظر… عسى الله يفرّجها."

على مقربة، صاح بائع الكتب بدواوين السيّاب والجواهري، فردّ عليه أحد المارة ساخطًا:
ـ "إي شراح تفيدنا الكتب؟ الخبزة أهم!"

تنهّد أبو مصطفى وهمس في نفسه: مصطفى كان يقول إن الوطن ما ينبني بالكلام وحده… ثم ابتلعه صمت البنادق.
في الزاوية الأخرى، مدّ طفل بائع المناديل يده قائلاً:
ـ "عمي، إشتري مناديل… الله يفرّج همّك."
ابتسم أبو مصطفى بحزن:
ـ "إي وليدي، لو هالمناديل تمسح غياب الابن… چان شريت كل الكمية."

رائحة ورق العنب التي تفوح من بائعة الدولمة أيقظت ذكرى أخرى؛ مصطفى وهو يضحك حول المائدة، يمد يده لجمع حصّته قبل الجميع. أغمض أبو مصطفى عينيه، فغمرته الرائحة كأنها تعيد الابن للحظة واحدة.

وفي مقهى الشابندر، جلس شاب وشابة بملامح طلاب كلية، يتبادلان الضحكات الخجولة خلف كتب مفتوحة. نظر إليهما أبو مصطفى، فارتجف قلبه: حتى مصطفى كان بعمرهم، يحلم يرجع للجامعة بعد الخدمة العسكرية .

ولم يغب عن المشهد ذلك المقدّم، يتأمل الطوابع البريدية بعينٍ خبيرة. كلما رآه أبو مصطفى، تذكّر ابنه في بدلته العسكرية، الكتف المنتصب، والخطوات المندفعة نحو المجهول.

حينها، وسط الزحام، ظهر شاب عشريني، يخطو بتردّد، عيناه غائرتان كمن يحمل على كتفيه ذاكرة كاملة. توقّف عند بضاعة أبو مصطفى، أخذ يقلب السبح بحذر، وكأنه يبحث عن حياة ضائعة بين الحبات.
حدّق فيه أبو مصطفى طويلاً، ثم ارتجف صوته:
ـ "إنت تشبه مصطفى…"
رفع الشاب رأسه، وقال بوجع:
ـ "عمي، أريد سبحة… لروح أبويه الشهيد. كالو لي الروح تهدا إذا نذكر اسمها على حبات السبحة. كل اللي تركه إلي صورة قديمة… ووصية لا أنساه بالدعاء."

ارتجف العجوز، للحظة رأى وجه ابنه في ملامح الشاب، حتى خُيّل له أن مصطفى عاد. تمتم:
ـ "مصطفى هم راح… وما رجع. وما خلولي غير كلمة: انتظر."

ساد الصمت. بائعة الدولمة أغلقت قدرها، الطفل أسقط علبة المناديل، العاشقان توقفوا عن الضحك، والمقدّم جمدت يده فوق الطابع. حتى الشابندر بدا وكأنه شهق مع الجميع.

مدّ أبو مصطفى يده على سبحة من العقيق البغدادي، ناولها للشاب وقال:
ـ "أخذها… بلا فلوس. هاي لروح أبوك… وروح مصطفى."

في تلك اللحظة، لم يكن المتنبي شارع كتب ولا بسطات ولا مقاهٍ، بل محرابًا واسعًا للفقد، تتردّد فيه الأرواح مع الحروف، وتذوب الدموع على أحجار العقيق. وفيه، كل فقدٍ فردي يصبح فقدًا جماعيًا، كأن الشارع يكتب سيرة العراقيين بالحبر والدم معًا.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ابتسامة على دفتر الدَّين
- نزف الغياب
- ظلّ البطاقة
- لقاء الأرواح
- أبنة السجان
- السيّار… حين يتوقف الحديد وتتحرك القلوب
- الرصاصة الرابعة
- الجندي المجهول _ حكاية الهوية العراقية
- نور في العتمة
- أشبيدي آنه ؟
- صوت وطن
- الضفة الاخرى
- مدرسة الطين
- عقاب الماء البارد
- ومضات العمر
- دم في نفس الشارع
- السوق _دكة العطار
- حين سلمني ابي
- الكرسي الفارغ
- حلم التخرج


المزيد.....




- أحمد الفيشاوي يعلن مشاركته بفيلم جديد بعد -سفاح التجمع-
- لماذا لا يفوز أدباء العرب بعد نجيب محفوظ بجائزة نوبل؟
- رئيسة مجلس أمناء متاحف قطر تحتفي بإرث ثقافي يخاطب العالم
- رئيسة مجلس أمناء متاحف قطر تحتفي بإرث ثقافي يخاطب العالم
- مشاهدة الأعمال الفنية في المعارض يساعد على تخفيف التوتر
- تل أبيب تنشر فيلم وثائقي عن أنقاض مبنى عسكري دمره صاروخ إيرا ...
- قراءة في نقد ساري حنفي لمفارقات الحرية المعاصرة
- ليبيريا.. -ساحل الفُلفل- وموسيقى الهيبكو
- بطل آسيا في فنون القتال المختلطة يوجه تحية عسکرية للقادة الش ...
- العلاج بالخوف: هل مشاهدة أفلام الرعب تخفف الإحساس بالقلق وال ...


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - انتظر .... عسى الله يفرجها