أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - أبنة السجان














المزيد.....

أبنة السجان


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 09:21
المحور: الادب والفن
    


في مقهى صغير على أطراف مدينة هادئة في السويد، جلس رجل خمسيني بملامح عربية واضحة أمام امرأة في الأربعين، ترتدي ثوباً بسيطاً، وعلى وجهها ملامح تعب جميل. كان بينهما صمت طويل، لا يقطعه سوى بخار فناجين القهوة. على الجدار، فوق ماكينة الإسبرسو، وُضع إطار خشبي بداخله قصاصة ورق صفراء. مدّ الرجل يده نحوها بعينين يغشاهما بريق حنين، وقال بصوت خافت:
– "أتذكرين؟ هذه كانت حياتي."
ابتسمت المرأة ابتسامة حزينة وقالت:
– "وأنا أيضاً… كانت حياتي."

لم يعرف الجالسون في المقهى أن هذا الرجل كان يوماً سجيناً محكوماً بالإعدام في بغداد، وأن هذه المرأة كانت ابنة سجّانه.

في صيف 1990، كان سامر، التاجر الكويتي الثري، يجلس في بيت خاله الحاج كريم في البصرة. المائدة عامرة بالسمك المشوي، وضحكات أبناء خاله تملأ المكان، والصغير يتشبث بركبته. لكن الأخبار كانت ثقيلة؛ القوات العراقية دخلت الكويت، والحدود أُغلقت. حاول أن يعود إلى زوجته مريم وابنه يوسف، لكن المستحيل أقوى. قال له خاله وهو يشد على يده:
– "لا تقلق، سنجد لك طريقاً إلى السعودية."

في تلك الليلة، انطلق سامر مع اثنين من أقربائه عبر طرق مظلمة. كان الصمت خانقاً، والنباح يتردد في الأفق. عند آخر نقطة، أضواء كاشفة، جنود يصرخون: توقف! أمسكوا به، واقتادوه إلى سجن في البصرة ، وبعدها تم نقلة الى سجن أبو غريب.

في الزنزانة، جلس يترقب النهاية. مثُل أمام محكمة الثورة. التهمة: تجسس. الحكم: الإعدام شنقاً. في الزنزانة الضيقة، الضوء أصفر شاحب، والرطوبة تملأ الجدران. كان يردد: هل هكذا ينتهي كل شيء؟ بختم أحمر؟

دخل عليه العقيد داود ليلة . جلس وقال ببرود:
– "حياتك مقابل ممتلكاتك. تتنازل عن كل ما تملك في العراق، أحوّل الحكم إلى مؤبد."
قال سامر:
– "خذوها… لكن دعوني أعيش."
ابتسم العقيد، وتم التنازل من خلا خالة الحاج كريم لكونه لديه توكيل رسمي .

لكن سامر لم يُعد إلى المشنقة. بل نُقل ليُخفى في بيت العقيد، حيث قُيّد في غرفة جانبية.

هناك رآها لأول مرة… ليان.

كانت ليان طالبة جامعية، في عينيها وداعة وفي قلبها تمرد. منذ اللحظة الأولى تعاطفت معه. تسللت إليه بكوب ماء وقطعة خبز. قال بصوت مبحوح:
– "لماذا تساعدينني؟"
قالت:
– "لأنك إنسان… وأبي نسي ذلك."

وذات ليلة، سمعت ليان والدها يقول لأمها:
– "لن ينجو الكويتي. أخذنا ماله، والباقي للمشنقة."
اقتحمت عليهما الغرفة وقالت:
– "حرام! لن أسكت. إن لم تحرره سأفضحك."

ارتبك العقيد، فاختار حيلة. حين مات سجين مريض، سجّل اسمه "سامر". على الورق مات التاجر الكويتي، وفي الحقيقة بقي مختبئاً في بيت الضابط.

جاء الفجر، فركب سامر سيارة حكومية يقودها سائق العقيد. الطريق طويل، الصحراء ممتدة. قبل أن يرحل، ناولته ليان قصاصة ورق صغيرة وقالت:
– "إذا وصلت إلى الحدود، أعطها للسائق ليعيدها إليّ. حين تصلني سأعرف أنك نجوت."

عند النقطة الأخيرة، سلّم سامر الورقة للسائق. نظر إليه لحظة قصيرة ثم أخفاها في جيبه. شعر أنه وُلد من جديد.

وصل إلى السعودية. لم يستطع العودة إلى الكويت فوراً؛ البلاد كانت تحت سيطرة القوات العراقية ، وأهل الكويت يفرون لا يعودون.

بقي هناك أسابيع طويلة مع اللاجئين الكويتيين، وقلبه يتقطع على عائلته. حتى جاء فبراير 1991، ودخلت القوات ادولية ودخلت الكويت.

عندها تمكن من العودة. احتضن مريم ويوسف بعد غياب مرير، وعرف أن الأقدار أعادته إليهما بفضل قصاصة ورق صغيرة.

مرت السنوات. بعد 2003، بحث سامر عن أخبار ليان. علم أن العقيد داود قُتل برصاصة مجهولة، وأن أمها ماتت حزناً، وزوجها قُتل في تفجير، فترملت وحيدة، تبيع المناديل عند تقاطع في بغداد.

أوصى سامر خاله أن يساعدها سراً. استأجروا لها بيتاً صغيراً ورتبوا لها راتباً شهرياً.

بعد عام، كتب لها عبر الإنترنت:
– "أنا الرجل الذي أعطيته القصاصة عند الحدود."
ردت:
– "كنت أحتاج أن أعرف أنك نجوت أكثر مما كنتَ أنت بحاجة إلى النجاة."

طالت المحادثات، حتى لاحظت مريم تغير زوجها. اتهمته بالخيانة، وانتهى الأمر بالانفصال. وجد سامر نفسه مشدوداً إلى المرأة التي أنقذت حياته يوماً.

طلبت ليان أن تخرج من العراق. ساعدها سامر حتى وصلت إلى السويد. هناك افتتحت مقهى صغيراً، وعلقت القصاصة في إطار خشبي فوق ماكينة القهوة. لم يعرف الزبائن أن هذا الإطار يحرس حياة كاملة نجت من المقصلة.

عاد المشهد من جديد إلى المقهى. جلس سامر أمامها بعد عام من هجرتها. لم يحمل هدايا، بل حمل امتناناً صامتاً. وضعت أمامه فنجان قهوة وقالت:
– "إن كان للضمير شكل، فهو يشبه وجهك الآن."
ابتسم وقال:
– "وأنت… أنقذتِ اسمي من الموت."

بعد أشهر، قررا الزواج. صار السجين المحكوم بالإعدام زوجاً لابنة سجانه.
مفارقة غريبة، لكنها كانت الحقيقة. وكلما سُئل: كيف تزوجت ابنة من سجنك؟ كان يبتسم ويقول:
– "لأن الباب الذي خرجت منه إلى الحياة لم يكن مفتاحه مع العقيد… بل مع ليان."



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السيّار… حين يتوقف الحديد وتتحرك القلوب
- الرصاصة الرابعة
- الجندي المجهول _ حكاية الهوية العراقية
- نور في العتمة
- أشبيدي آنه ؟
- صوت وطن
- الضفة الاخرى
- مدرسة الطين
- عقاب الماء البارد
- ومضات العمر
- دم في نفس الشارع
- السوق _دكة العطار
- حين سلمني ابي
- الكرسي الفارغ
- حلم التخرج
- النافذة التي لا تُفتح
- بين النخيل
- حين تسقط الاقنعة
- صحوة القلب
- زهرة ذبلت قبل الربيع٤


المزيد.....




- يهدد عرش هوليود.. أول فيلم رسوم متحركة بالذكاء الاصطناعي
- تعزيز التمثيل النسائي في مجالس الإدارة الفلسطينية
- بالفيديو.. الفنان الفلسطيني أشرف الشولي يداوي القلوب بالموسي ...
- -مذكرات في فلسطين وإسرائيل-… كتاب يوثق تجربة مصرية في غزة ما ...
- مسسلسل -The Studio- الأكثر فوزًا بجوائز -إيمي- للفنون الإبدا ...
- حبّ تحت التقنين
- هذه هي الأفلام التي يفضلها بوتين؟
- فيلم -صوت هند رجب- يفوز بـ-الأسد الفضي- في مهرجان فينيسيا
- WSJ: غزة أصبحت نقطة استقطاب في عالم الموسيقى العالمي
- الشاعر الإيطالي جوزيبي كونتي: -طوبى لعينيْك يا أَنس الشرِيف- ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - أبنة السجان