أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - صوت وطن














المزيد.....

صوت وطن


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8454 - 2025 / 9 / 3 - 08:29
المحور: الادب والفن
    


الوطن فكرة قبل أن يكون أرضاً. والفكرة حين تُغرس في القلوب تصير أقوى من الطوائف والحدود. قد يتنازع الناس على الأسماء والرايات، لكن حين يهتف الجموع بصدق، يذوب كل ما سوى ذلك، وتبقى الحقيقة وحدها: أننا أبناء جرح واحد، ومصير واحد، وسماء واحدة. لحظة صدقٍ كهذه قادرة أن تُعيد مسار التاريخ، وأن تجعل الصوت البشري أبلغ من كل بيان سياسي.

كانت بغداد في خريف 2019 مدينةً متعبة، يختلط فيها الدخان برائحة الخبز الطازج المنبعث من الأفران القريبة. شوارعها مبللة بعرق العابرين، وحوائطها مكتوبة بالشعارات. وعلى جسر الجمهورية الممتد فوق دجلة، تجمّعت خطوات الشباب كأنها إيقاع واحد، يصدح باسمٍ واحد: الوطن.
في ساحة التحرير، حيث النصب الشامخ يروي للأجيال قصة الحالمين بالحرية، كان المشهد أكبر من أي وصف. الخيام منصوبة على الأرصفة، أعلام صغيرة يلوّح بها الأطفال، نساء يوزّعن الماء والخبز، ورجال بسطاء يكتفون بالوقوف متأملين، كأنهم يشهدون ميلاداً جديداً لبلدٍ أنهكته الحروب.
جاء "أحمد" من الموصل، حاملاً حقيبة صغيرة وقلباً مثقلاً بالذكريات. عبر مدناً وجسوراً مهدّمة، ترك وراءه صور الدمار، لكنه جلب معه شوقاً عارماً إلى عراق لا يسأل أبناءه عن مذاهبهم. حين صعد على كتف أحد رفاقه، رفع صوته بنبرة قوية، وقال:
ــ "أنا سُنّي، وهذا أخي الشيعي، وهذا صديقي المسيحي… كلنا هنا عراقيون فقط!"
ساد صمت قصير، ثم انفجر الجمع بالهتاف. ارتجّ الجسر، وتعالت الرايات، وانصهر الجميع في لحظة بدت كأنها نبوءة. لم يعد أحد يرى الفرق بين الموصل والبصرة وبغداد، بل رأوا جميعاً وجه العراق كما ينبغي أن يكون.
في ركن من الساحة، جلس رجل خمسيني يرتدي نظارة سميكة وبدلة قديمة. كان أستاذ فلسفة متقاعداً. لم يأتِ ليرفع لافتة، بل ليشهد بعينيه ما عجزت الكتب عن صياغته. تمتم قائلاً:
ــ "ها هم يصحّحون المسار… ما لم تصنعه خطب الساسة تصنعه صرخة شاب في لحظة صدق."
مرت بينهم فتاة تحمل كيس خبز وزجاجات ماء. وجهها شاحب، لكن ابتسامتها متقدة. وزّعت ما بيدها على الشباب، ثم رفعت رأسها إلى السماء كأنها تخاطب أخاها الذي استشهد قبل أيام في نفس المكان:
ــ "نم مطمئناً… رفاقك يكملون الطريق."
لكن أصوات القنابل الدخانية لم تتأخر. امتلأ الجو بالغاز، وتفرّق الناس وهم يسعلون، إلا أن الهتاف ظلّ يتردّد من بين الضباب:
ــ "كلنا عراقيون!"
كان الصدى أقوى من الرصاص، وأبقى من أي خطاب. وقف أحمد وسط الدخان، يلتفت إلى صديقه الجنوبي وصاحبه المسيحي، وأيقن أن هذه الروح لا يطفئها غاز ولا يخرسها تهديد.
مع حلول الليل، تحوّلت الساحة إلى مخيّم كبير. مواقد صغيرة تضيء العيون، الشاي يُسكب في أكواب ورقية، والقصص تُروى بين غرباء صاروا إخوة. تحدّث أحمد عن الموصل وليلها الطويل، وحكى رفيقه عن الناصرية وماء الفرات، وسردت الفتاة حكاية أخيها الذي رحل تاركاً خلفه حلماً بوطن عادل.
قال الأستاذ المتقاعد وهو يجلس بينهم:
ــ "اليوم رأيت ما لم أره في عمري الطويل. أنتم لم تخرجوا لهدم وطن، بل لبنائه. لم تأتوا بالفوضى، بل جئتم لتصحيح المسار."
ابتسم أحمد وصوته مبحوح:
ــ "الوطن ليس ضد أحد، الوطن معنا جميعاً… ونحن لم نكتشف ذلك اليوم، نحن فقط تذكّرنا."
حين بزغ الفجر، غسلت السماء شوارع بغداد بضياء جديد. الجدران ما زالت مكتظة بالشعارات، لكن القلوب حملت وعداً أكبر: أن العراق سيبقى واحداً مهما تكسّرت فيه الأحزاب والولاءات.
وبدا النصب شامخاً أكثر من أي وقت مضى، كأنه يهمس للتاريخ:
"هؤلاء الذين عبروا هنا… لم يخرجوا إلا ليصنعوا وطنهم من جديد، ويعيدوا المسار إلى نصابه."
وفي عيونهم، كان الوطن يولد، لا كحلم مؤجل، بل كحقيقة تمشي على الأرض.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الضفة الاخرى
- مدرسة الطين
- عقاب الماء البارد
- ومضات العمر
- دم في نفس الشارع
- السوق _دكة العطار
- حين سلمني ابي
- الكرسي الفارغ
- حلم التخرج
- النافذة التي لا تُفتح
- بين النخيل
- حين تسقط الاقنعة
- صحوة القلب
- زهرة ذبلت قبل الربيع٤
- الصندوق الأخير
- الحب عبر الجدار
- رسالة بين دفّتي كتاب
- الشمعة والريح
- قصة حب واحدة… وحياة كاملة
- صويحبتي


المزيد.....




- لا شِّعرَ دونَ حُبّ
- عبد الهادي سعدون: ما زلنا نراوح للخروج من شرنقة الآداب القلي ...
- النّاقد السّينمائي محمد عبيدو ل “الشعب”: الكتابات النّقدية م ...
- الرّباط تحتضن عرض مسرحيّة (البُعد الخامس) لعبد الإله بنهدار ...
- والدة هند رجب تأمل أن يسهم فيلم يجسد مأساة استشهاد طفلتها بو ...
- دواين جونسون يشعر بأنه -مُصنّف- كنجم سينمائي -ضخم-
- أياد عُمانية تجهد لحماية اللّبان أو -كنز- منطقة ظفار
- إبراهيم العريض.. جوهرة البحرين الفكرية ومترجم -رباعيات الخيا ...
- حصان جنين.. عرضان مسرحيان في فلسطين وبريطانيا تقطعهما رصاصة ...
- من بنغلاديش إلى فلسطين.. جائزة الآغا خان للعمارة تحتفي بمشار ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - صوت وطن