أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - الحب عبر الجدار














المزيد.....

الحب عبر الجدار


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 13:44
المحور: الادب والفن
    


ما أشدّ ما يبتلي الله به قلوب عباده من سلطان الهوى! فهو الداء الذي لا دواء له، والريح التي إذا عصفت بالنفس أذلتها، وجعلتها أسيرةً لنداء خفيّ لا يُرى ولا يُلمس. وهل للحب قانونٌ يردعه، أو منطقٌ يحكمه؟ قد يجيء من نظرةٍ عابرة، أو لحنٍ مسافر، أو كلمةٍ لم يقصد قائلها غير العزف على وتر قلبه، فإذا هي قدرٌ محتوم، يسوق المرء إلى السعادة أو يجرّه إلى الشقاء. آهٍ للحب الطاهر! كم يرفع الروح إلى عليائها، ثم يرديها إذا اصطدم بجدار العرف والتقاليد.

في أزقة بغداد القديمة، حيث الجدران المتلاسقة تتراكم كصفحات من كتاب الزمن، وحيث ينادي الباعة في الأسواق فيختلط صوتهم بصوت المؤذّن، كان "حيدر" يعيش بين هموم الدراسة ووحشة الروح. غير أنّ نافذته الصغيرة كانت نافذة قلبه أيضًا، ومنها يتسلّل إليه في كل مساء عزف جارتهم "سارة" على العود.

كان العود يئنّ بأنغامٍ عذبة، تتأرجح بين حزنٍ عميق وفرحٍ مكتوم. وكان حيدر يصغي إليها بوجدٍ لا يوصف، حتى إذا سار إلى جامعته في الصباح، ردّدها كأنها صلوات قلبه.

ولكن ما أشدّ حيرته! أيُعَدّ هذا الإصغاء خيانة للحياء، واستراقًا لما لم يُقصد له؟ أهو اعتداء على سترٍ أرادته صاحبة اللحن؟ كان يجد نفسه بين لذّةٍ حلوة وقلقٍ مرير، بين صوتٍ يحييه وضميرٍ يلومه.

وذات ليلة، غاب العود. جلس حيدر ينتظر حتى مضى الليل، فلم يسمع سوى صمتٍ ثقيل. وفي الليلة التالية تكرّر الغياب، فشعر كأنّ روحه قد فقدت نبضها. عندئذٍ غلبه الشوق، فمضى إلى بيتهم بحجّة السؤال عن أخيها "محمود".

فُتح الباب، فإذا به أمام وجهٍ كالقمر في اكتماله، فيه حياء الزهر عند مطلع الفجر. تلعثم وقال بصوتٍ متقطّع:
– "كنتُ أسمع عزفك كل ليلة… لكنك غبتِ. فهل أصابك بأس؟"

أطرقت برأسها، ثم رفعت عينيها وفيهما دهشةٌ وابتسامة:
– "ظننتُ أنّ لا أحد يسمعني… وأنّ أنغامي لا تتجاوز جدار بيتنا."
قال وقد احمرّ وجهه:
– "بل تجاوزت الجدار إلى قلبي."

منذ تلك اللحظة، لم يعد العود مجرّد آلة، بل صار بريدًا سريًا بين قلبين. تبادلا الرسائل عبر الشقوق: أوراقًا صغيرة، كلماتٍ قليلة ولكنها أكبر من الشعر. وكان كل لحنٍ يحمل معنى، وكل نغمةٍ رسالة، حتى غدا الجدار بينهما أشبه بستارٍ شفاف، يُخفي الأجساد ويكشف الأرواح.

لكنّ المجتمع لا يرحم أحلام العاشقين. بلغ الخبر مسامع أهلها، فثاروا غيرةً وحذرًا، ومنعوها من العزف، وأغلقوا النافذة. وهكذا سقط الليل على قلب حيدر صامتًا، لا يُسمع فيه إلا صرير الريح.

هنا واجه امتحانه الأكبر: أيدقّ الباب معلنًا حبّه متحديًا الأعراف، فيكون سببًا في فضيحتها؟ أم يصمت ويمزّق قلبه بيده، ليحفظ لها سترها وكرامتها؟ اختار الصمت، فكان أشرف له في ضميره، وأقسى عليه في قلبه.

مضت أيام وليالٍ، وحيدر جالس عند نافذته، يحدّق في جدارٍ صامت، كأنّه قبر دفن فيه حلمه. حتى إذا جاء مساءٌ حزين، سمع فجأةً نغمةً قصيرة تتسلّل من بيتها. لم تكن لحنًا كاملًا، بل تنهيدة موسيقية أقرب إلى دمعةٍ على وترٍ يتيم.

فهم أنّها رسالتها الأخيرة: "أنا هنا… حتى وإن منعوني."

عاد إلى غرفته، جلس عند نافذته، وردّد اللحن بصوتٍ مرتعش حتى اختلط صوته بدموعه. ثم رفع رأسه إلى السماء وقال في تأمّلٍ موجوع:
"يا رب، إن كنتَ قد حرمتني من وصالها، فلا تحرمني من ذكرها. إنّ في الذكرى حياةً أصفى من العيش، وفي الوفاء عزاءً أسمى من النسيان."

ومنذ ذلك اليوم، لم يعد حيدر يسمع سوى صمت الليل، غير أنّ قلبه ظلّ عامرًا بلحنها. لقد صار "الحب عبر الجدار" ذكرى عذرية أبدية، لا يزهرها الوصال، ولا يميتُها الفراق.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة بين دفّتي كتاب
- الشمعة والريح
- قصة حب واحدة… وحياة كاملة
- صويحبتي
- حين يغسل المطرُ الوجوه
- مرثيّة نصف عام
- رحيلٌ مؤجَّل
- حين انكسر الجدار
- الحمار الذي زأر
- نعلُ الجدِّ الذي أنقذَ الحفيد
- حُجَّةٌ... وَلَكِنْ إِلَى أَيْنَ؟
- بيت لا يقبل القسمة


المزيد.....




- ثبتها وتابع أحدث البرامج الثقافية على تردد قناة ناشيونال جيو ...
- التربية تفتح ابواب النقل امام طلبة معاهد الفنون الجميلة لغاي ...
- المترجم يحيى مختار: رحلة أكثر من 30 كتابًا للأدب الصيني بنبض ...
- الرياض تقرأ.. والسعودية تكتب المستقبل (فيديو)
- أسطورة الشطرنج بوبي فيشر.. البيدق الأميركي الذي هزم السوفيات ...
- القضاء الأمريكي يحكم على مغني الراب -ديدي- بالسجن أربع سنوات ...
- محمد صلاح الحربي: -محتاج لحظة سلام- بين الفصحى واللهجة
- سياسات ترامب تلقي بظلالها على جوائز نوبل مع مخاوف على الحرية ...
- مئات المتاحف والمؤسسات الثقافية بهولندا وبلجيكا تعلن مقاطعة ...
- ساحة الاحتفالات تحتضن حفلاً فنياً وطنياً بمشاركة نجوم الغناء ...


المزيد.....

- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - الحب عبر الجدار