نعمة المهدي
الحوار المتمدن-العدد: 8435 - 2025 / 8 / 15 - 08:28
المحور:
الادب والفن
ما أكثرَ ما يتزيّنُ الناسُ بتيجانٍ من ضوءٍ مستعار، يلمع ما دام النهار شاهدًا، فإذا هبط الليلُ وأرسلت السماءُ دموعها، انحلت التيجان، وانكشفت الجباهُ على حقيقتها. إن للقدر أمطارًا ليست ماءً فقط، بل هي صحائفٌ تُتلى على الأرصفة، تحصي على الأرواح سرائرها، وتفضح الظلال التي توهمت أنها آمنة في جوف العتمة. وهل الفضيلة إلا شجاعةُ الوقوف في وجه الخوف؟ وهل الرذيلة إلا راحةٌ تستعير من الصمت سريرًا ومن التبرير لحافًا؟ هكذا يُمتحَن القلبُ: قطرةً فقطرة، حتى يفصل المطر بين ذهب النية ورماد الكلام.
كان الليلُ يسدلُ على المدينة عباءتَه الثقيلة، والمطر ينقر على السقوف نقرَ عازفٍ ماهر في إيقاظ الذاكرة. في الزقاق الضيق، حيث الحجارة تلمع تحت مصابيح صفراء، كان مخبزي الصغير يشتعل بنار التنور، يرسل رائحة الخبز الساخن ممزوجة بعبق التراب المبتل. كنتُ أقلّب أرغفتي كمن يمسح على رؤوس أيتام، وأحرس لساني من الكلام الكثير، فما تعوّدت غير الهمس مع النار.
طرقات خفيفة هزّت الباب الخشبي، لكن القلب هو الذي ارتجف. فتحت، فإذا بامرأة شابة بلون الغيم، يقطر المطر من أطراف حجابها، وعلى صدرها طفلة تتنفس بصعوبة، ملفوفة ببطانية قديمة. وقفت على عتبة الدفء، كأنها تخشى أن يخونها الضوء. قالت بصوت متقطع: "أجرُ الله… لا مأوى لي هذه الليلة."
أجلستها قرب المدفأة، فتصاعد بخار المطر من ثيابها خيوطًا رفيعة، كأن الأسرار تهرب من حصار الصمت. سألتها عن أهلها، فانكسرت الكلمات على شفتيها، وانحدرت دموعها مثل جدول صغير يبحث عن بحيرة يأوي إليها. قالت بعد هنيهة: "زوج يكرمه الناس إذا مرَّ، ويهوي بيده عليّ إذا أُغلق الباب… يقولون: رجل شرف، وأنا أعرف وجهًا آخر للشرف."
عندها ارتفعت من أعماقي صورة قديمة: أختي ليلة عادت إلينا وعلى خدها أثر يدٍ ادّعت الحب. والجرح إذا استيقظ رأى في كل حكاية شقيقًا. وضعت أمامها رغيفًا ساخنًا وكوبًا من الحليب، وقلت: "الليل طويل، ومطر الله لا يخذل من طرق بابه."
ظللت أذرع المخبز جيئة وذهابًا، وبين يديّ محكمة لا قاضِي فيها سواي: أأكتفي بفتات الخبز ورمق الدفء، أم أمدّ يدي إلى عمق العتمة فأدفع عنها سوطًا وملاحقة؟ كنت أعلم أن للمدينة ألسنة أَحدّ من السكاكين، وأن كلمة واحدة قد تطفئ خبز يوم طويل، لكن كان في القلب شيء أحرّ من النار: أن يبيت إنسان على بابي ولا أمشي .
أقامت ليلتها عندي، والمطر يقرأ الآجرّ سطرًا سطرًا. في الفجر، قبل أن ينكسر الضوء على قوارير النافذة، قالت: "اسمي سارة… وما عاد في اسمي ما يهم أحدًا." ثم روت، لا دفعة واحدة، بل فقرات كالأنين: زواج انعقد على كلمة وعد، ثم تحوّل الوعد عصًا. بيت يلمع في نظر الجيران، وفي جوفه عتمة يتعثر فيها البكاء. رجل يقسم في المجالس على حماية الشرف، ثم يطعن الشرف في غرفة بلا شهود إلا الله.
كنت أصغي، والنار في التنور تلقي شررًا كأزهار صغيرة من ضوء، فأفهم أن للدفء معنى آخر حين يُطلب لوجه الله. اشتريت لها نهارًا رداءً جافًا، وخبأتها وراء الستارة حين يزدحم الباب. كانت الطفلة تلتقط الهواء كعصفور انكسر جناحه، فأقمت قربها شمعة صغيرة تومض على جبينها أملًا. وأخرجت من درج قديم صورة أختي ورسالة قديمة، فشعرت أن القدر يعيد ترتيب الحكاية كي أكتب هذه المرة خاتمة أخرى.
ومع مرور الساعات، كان الصراع يشتد: أخشى أن أُتَّهَم بما لا أرضى، وأن تلوّثني ألسنة لا يغسلها المطر، وأخشى فوق ذلك أن أخون الأمانة إذا دفعتها إلى الشارع مرة أخرى. كنت أتعلم درسًا لم يدرّسه الفقهاء: أن حماية الضعيف فتوى، وأن صمت الجار معصية.
لم يحتج الليل إلى كثير من الخطى حتى وصل الخطر. سُمعت في الزقاق خطوات ثقيلة وصوت يختلط فيه الغضب بالشماتة. كان الزوج قد علم بمكانها، فجاء لا وحده، بل ومعه ظل المدينة الثقيل: شبهة وعيون تتلصص من الشقوق. وقف على الباب، يزهو بثيابه الداكنة ووجهه الصقيل كمرآة لا تحفظ إلا المظهر. قال بصوت يجلد: "عدتُ لآخذ زوجتي التي اختطفتها من فراشي." قلت: "ما اختطفتُ إلا الحق من تحت نعل الباطل."
اقترب خطوة، فسمعت دقات قلبه كما لو كانت وقع مطر على حجر، لكنها دقات تنذر بعاصفة. حاول أن يزيحني عن الباب، فثبتُّ كمن يغرس عمودًا في مجرى السيل. ارتجف بعض من في الزقاق، وانسحب آخرون إلى الظلال. ومن خلف الستارة، جاء صوت سارة، متهدّجًا لكنه حادّ: "ما عدتُ زوجتك منذ سلّمتني إلى خوفك، ولا عدت ظلًا لرجولة تقوم على بصمة الألم."
تراجع خطوة، وترك خلفه سمعة تحاول عض كتفيّ. كنت أعلم أن حياتي في هذا الزقاق لن تعود كما كانت، لكنني كنت أعلم أيضًا أن خبزي من طحين الناس، ورزقي من نظر الله، وأنني اخترت لمن أرضي.
في الصباح، رتبت رحيلها. أجّرت عربة قديمة، وأخفيت سارة وطفلتها تحت شال سميك. سلّمت السائق ظرفًا مختومًا فيه عنوان قريبة لها في مدينة أخرى. قبل أن تغادر، وضعت في يدها وردة ذابلة كنت أحتفظ بها منذ سنين، وقلت: "هذه تذكرك أن الورد يموت إن لم يجد ماء أمينًا." قالت وهي تكاد تبكي: "للطفلتك التي صارت طفلتنا قُبلة باسمك."
تحركت العربة، وكان المطر قد عاد يكتب على الأرض كتابًا من اللمعان. وقفت عند الباب، أرى القطرات مرايا صغيرة، وفيها وجهي بلا قناع. دخلت المخبز، وأطفأت النار قليلًا لأتيح للدخان أن يصعد. على الطاولة بقيت فتات أرغفة كالأيتام، فجمعتها في كفيّ، وهمست: "كم في هذه المدينة من يتيم لا يجد كفًّا تجمعه؟"
مرت الأيام، ولم يخلُ يوم من همس أو نظرة، لكن قلبي تعلّم أن الانحياز إلى الضعيف، ولو خَسرتَ ربحًا، هو الربح الحقيقي. وأن الشرف لا يُقاس بصرخة رجل في مجلس، بل بيد تُرفع سرًا لتمنع السوط. لقد دفعت ثمنًا، نعم، لكن أثقل الأثمان هو أن يمر المطر على وجهك فلا يجد فيه شيئًا يستحق الغسل.
كل ليلة، حين أسمع المطر يكتب على السقف آياته، أهمس: "اللهم اجعل في كل قطرة صحوة، وفي كل رغيف أمانًا، وفي كل محنة طريقًا إلى قلب أوسع من الزقاق." ثم أنام قرير العين، فقد عاد للخبز طعمه، وللمطر رسالته، ولوجهي – حين تغسله السماء – لونه الأول.
#نعمة_المهدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟