أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - حُجَّةٌ... وَلَكِنْ إِلَى أَيْنَ؟














المزيد.....

حُجَّةٌ... وَلَكِنْ إِلَى أَيْنَ؟


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8427 - 2025 / 8 / 7 - 17:32
المحور: الادب والفن
    


ليس أعظم من انكسارِ قلبٍ بنى حياته على الرجاء.
فالألمُ لا يأتي دائماً من الخيانة، بل من ذلك الإيمان الطاهر الذي حملناه بين ضلوعنا وظننا أنّه سيُكافأ بالوفاء.
الزمن لا يُخيف الأرواح النقيّة... الذي يُخيفها هو أن تُخطئ في قراءة نوايا من أحبّت، وأن تحسب الزيف صدقاً، والرغبة رحمةً، والنهاية بدايةً.
وهكذا... لا تنكسر الأم لأن ولدها قسا، بل لأنها ظنّت أن بين يديه، أخيرًا، سيقودها الطريق إلى نور الكعبة، لا إلى ظلّ الجدران المنسية.


في بيتٍ قديمٍ تتراقصُ فيه رائحةُ القهوة مع بقايا الزمن، كانت "أم عبد الله" تعيشُ كما تعيش الشجرة في حديقة مهجورة... لا أحد يرويها، لكنها لا تتوقف عن الإزهار.
بعد رحيل زوجها، لم تُفكر يومًا في الرحيل عن بيت ولدها. لم تكن عبئًا، بل ظلاً دافئًا يمتدّ فوق رؤوس الجميع. كانت تستيقظ قبل الفجر، توقظ الأحفاد، تطبخ العدس برائحة الحب، وتقرأ القرآن بصوت لا يكاد يُسمع، كأنها تهمس لله وحده.

لم تشكُ يومًا، ولم تطلب شيئًا، حتى ظنّت الأيام أنها لا تحتاج شيئًا.
وفي مساءٍ من مساءات العمر المتعبة، جاءها ولدها عبد الله، وجهه يشعّ بضياءٍ غريب، ونظرته تحمل دفئًا غامضًا. جلس عند قدميها، قبّلهما، ثم قال:
– "يمّه، حجزتلج سفرة عمرة."

في لحظةٍ واحدة، بدا كلّ التعب الذي عاشته كريحٍ انحسرت فجأةً عن وجه الأرض.
كان الوعد كنسمةٍ من الجنّة، والفرحة كصلاةٍ مستجابة. لم تنم ليلتها، ظلّت تُعدّ دعواتها، تراجع آيات الحلم، وتطوي ملابسها كما تُطوى صفحات الوداع.

هيّأت كل شيء: عباءتها الجديدة، مصحفها الصغير، الصور القديمة لزوجها التي خيطتها في جيبها الداخلي كي تُبلغه بالدعاء هناك، حيث ترتفع الأرواح ولا تُكذّب النوايا.

الطَّرِيقُ الَّذِي انْحَرَفَ
في الصباح، حملها عبد الله بسيارته. كانت تمسك مسبحتها بيد، وباليد الأخرى تداعب دعاء السفر.
الطريق امتدّ طويلاً، والسماء غائمة كأنها تتحفّظ على ما سيحدث. الشوارع تغيّرت، الوجوه خارج النافذة لم تكن وجوه الحرم، بل ملامح شاحبة تقود إلى اللامكان.

وحين توقّف أمام مبنى غريب، بدا كلّ شيء غريبًا: بوابة حديدية ملساء، حديقة ذابلة، صمتٌ ثقيلٌ كالمقابر.

قال بصوت متماسك:
– "يمّه... هذا المكان أريح لج. تهتم بيج ناس متخصصين، وإحنا نجي نزورج كل جمعة."

لم يكن بحاجةٍ لشرحٍ أكثر.
كان الحارس واقفًا، يدوّن الاسم في دفترٍ أصفر، والحقائب تُنقل كأنها ليست أكثر من بقايا حلم.
عبد الله قبّل رأسها، وابتعد... دون أن يلتفت.

في تلك اللحظة، لم تبكِ "أم عبد الله" من الخذلان، بل من التصديق.
كيف صدّقت؟ كيف هيّأت قلبها للسماء، فإذا بها تُلقى على عتبة الأرض؟
لم تغضب، لا... فالغضب لا يليق بأمٍّ تعبت من الحب، لكن الندم كان صامتًا في عينيها كدمعةٍ رفضت السقوط.


في الليلة الأولى، جلست في غرفتها الجديدة: سرير معدني، جدران كأنها لم تسمع يومًا دعاءً، وممرّات تتنفس من وجع الآخرين.
وضعت مصحفها بجانب الوسادة، لكن عيناها ظلّتا تحدّقان في الباب... لعلّ أحدهم يخطئ الطريق ويأتي بها إلى الحرم الحقيقي.

في اليوم الثاني، جاءت إحدى العاملات لتسألها إن كانت بخير، فأجابت:
– "أنا لا أحتاج شيئًا... فقط دليني، أين القبلة؟"

صلّت، ثم همست وهي ساجدة:
– "اللهم لا تُحاسبني على طيب نيّتي... ولا على رجاءٍ وضعتُه في غير موضعه."

كانت كل زيارة من عبد الله جمعةً جديدة من الصمت، تأتيه بالتمر والدعاء، ويأتيها بالمجاملات والسرعة. لم يلحظ نحول وجهها، ولا احتباس الكلام في شفتيها.
لكنها لم تعد تنتظر شيئًا. لقد حجّت، نعم... لكن إلى الحقيقة، لا إلى الحرم.

في أحد الأيام، بينما كانت تجلس في الحديقة الميتة، وقعت عيناها على زهرةٍ صفراء تنمو وحدها في زاوية الحائط.
ابتسمت وقالت لها:
– "أنتِ مثلي... لم تختاري المكان، لكنك أزهرتِ رغم الجدران."


لم تُذلّ حين خذلها ابنها، بل حين علّقت قلبها على خيوطٍ لم تحتمل وزنها.
لم تكن رحلتها إلى الكعبة، بل إلى بصيرةٍ ترى ما وراء الوعود.
ولم تكن النهاية دارًا تُغلق عليها الباب، بل نافذة فُتحت لها على العالم كما هو، بلا تزييف.

هكذا انطفأ الحلم، لكن لم ينطفئ الإيمان.
وهكذا عرفت "أم عبد الله" الحقيقة الكبرى:
أنّ الله لا يُرى من وراء الجدران فقط، بل من خلال دمعةٍ نزلت في صمت، وعينٍ صلّت وهي مفتوحة، وقلبٍ خُذل لكنه ما خان.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيت لا يقبل القسمة


المزيد.....




- غزة في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي
- السلطان و-الزواج الكبير- في جزر القمر.. إرث ثقافي يتوّج الهو ...
- -مكان وسط الزحام-: سيرة ذاتية لعمار علي حسن تكشف قصة صعود طف ...
- السعودية.. الفنان محمد هنيدي يرد على تركي آل الشيخ وتدوينة ا ...
- المخرج علي كريم: أدرك تماما وعي المتلقي وأحب استفزاز مسلمات ...
- وفاة الممثلة كيلي ماك عن عمر ناهز 33 عامًا بعد صراع مع السرط ...
- ليدي غاغا تتصدر ترشيحات جوائزMTV للأغاني المصورة لعام 2025
- عشرات الإعلاميين والفنانين الألمان يطالبون بحظر تصدير السلاح ...
- بين نهاية العباسي وأواخر العثماني.. دهاليز تظهر أثناء حفر شا ...
- ظهور جاستن ببير مع ابنه وزوجته في كليب أغنية Yukon من ألبومه ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - حُجَّةٌ... وَلَكِنْ إِلَى أَيْنَ؟