نعمة المهدي
الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 19:12
المحور:
الادب والفن
(حين صار الحذاءُ درعًا في وجهِ الموت)
المقدمة .
ليس الجحيمُ هو الآخر كما يقول بعضهم، بل الجحيمُ هو أن ترى ظلّكَ ينكرُك، وأن يصبح الخوفُ امتدادًا طبيعيًّا لحسّك، كالجلد، كالتنفس، كالصلاة. عندما تُنتزع المعاني من الكلمات، ويبقى الإنسانُ وحيدًا في وجه الغموض، يبدأ قلبه في تَلمُّس طريقٍ جديدٍ للخلاص: طريقٍ ليس فيه من المنطق سوى الرحمة. وما الرحمة، إن لم تكن جنونًا سماويًّا يهدم قوانين البقاء؟ في تلك اللحظة، لحظة التخلي عن الحسابات، يولد الإنسان من جديد، في شكل جدٍّ حافٍ، أو فتىً خائفٍ يحمل دواء... لا فرق.
الفصل الأول: نعلٌ في طريقٍ لا يؤدي إلى بيت
كانت الشمسُ تتسلل بصعوبةٍ من خلف ستائر الغبار والدخان التي خيّمت على سماءِ بغداد، كأنّها تخجلُ من النظر إلى المدينة التي أرهقها النواح. كان علي، فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة، يعبرُ الأزقّة الضيقة متفاديًا الحفر والانفجارات الماضية. في يده اليمنى كيس صغير يحوي شريطًا من الحبوب، وفي قلبه رعشةٌ من بقايا حلمٍ يُدعى “الأمان”.
رائحةُ البارود لا تزال تلتصق بجدران الأبنية، كأنها ترفض المغادرة. ظلالُ الناس كانت تُخاتلُ الأرصفة، لا تمشي بل تتسلل، والليل لم يحن بعد، لكنه تسلّل إلى الأرواح منذ زمن.
علي، الذي لم يُجرّب من الحياة غير المرض والخوف، كان قد خرج ليشتري الدواء لأمّه. لم يكن يدرك أن طريق العودة سيكون أثقل من ألف معركة، ولا أن حياته ستُقاس بلهجةِ سائلٍ، أو بانفعالِ إصبعٍ على الزناد.
العقبة الأولى: سؤالٌ مثل حدِّ السيف
من زقاقٍ مظلم، خرج ثلاثة رجال ملثّمين، صمتهم أقوى من فوهات أسلحتهم. التفتَ علي إليهم، فتوقف الزمن.
– "اسمك؟"
– "من وين أنت؟"
– "وين رايح؟"
كل سؤالٍ كان شبحًا له جناحان، إن أخطأتَ في لفظه طار بك إلى السماء جثةً هامدة.
وقف علي. لم تنفعه شهادات المدرسة، ولا دروس الدين، ولا حتى تذكّر وجه أمّه الذي كان يعتاده حين يرتعب. جسده ارتعش، عيناه دمعتا بلا أمر. في داخله سؤالٌ واحد: هل هذه هي نهايتي؟
لكن قبل أن يتحوّل الخوف إلى رصاصة، جاءه صوتٌ غريب… صوتٌ لا ينتمي لهذا السياق.
"ولدي! يا حبيبي، ضيّعتك والله! تعال لهنا…"
ظهر الرجلُ فجأة، نحيلًا، ممزق الثياب، حافي القدمين، يركض ويده مرفوعة، وفيها نعلٌ قديمٌ بالكاد يلتصق بحزامه. كان يبدو كأنه سقط من زمنٍ آخر، أو من ذاكرة بعيدة.
"هذوله أهلي… لا تذبحوا ابني."
مرت لحظة صمتٍ كثيف. تبادل الرجال النظرات. بدا الأمر مربكًا، كأن القصة تغيّرت، أو أن ضوءًا جديدًا سقط في منتصف المسرح. أشار أحدهم بيده أن “اذهبوا”، فاستداروا واختفوا في الضباب.
الفصل الثاني: الطريق إلى حياةٍ لم يُخطّط لها أحد
سار علي إلى جانب العجوز مسافة طويلة، لم يجرؤ على الكلام. الرجل كان يسعل، ويتكئ على الجدران بين كل عشرة أمتار، لكنّه لم يترك يده. ولمّا وصلا إلى شارعٍ آمنٍ نسبيًا، جلسا على حافة الرصيف.
"عمو... ليش ساعدتني؟" سأل علي، بنبرة مخنوقة.
العجوز لم ينظر إليه فورًا. أخرج النعل من جيبه وتأمله كمن يتفحص شاهدَ قبر. قال أخيرًا:
"هالنعال... كنت أضرب بيه ولدي الصغير لما يعاند. كنت أظنه ما يوجعه، بس كنت أريد يطيع. راح… وراحوا غيره. سبعة أولاد… راحوا، واحد ورا الثاني."
ثم ابتسم ابتسامة باهتة كأنها تُحيي حفنة تراب، وأضاف:
"ما كدرت أشوفك تروح… كأنك آخر وجع لازم أوكف بوجههم."
علي أنزل رأسه، شعر أن هذا الرجل ليس جدّه، لكنه أقرب إليه من كل من يحملون اسمه.
العقبة الثانية: السؤال الذي لا يُحتمل جوابه
في اليوم التالي، عاد علي إلى المكان نفسه. لم يجد العجوز. سأل، بحث، انتظر. وفي اليوم الثالث، وجد عجوزًا آخر يسكن بالقرب من الزقاق، قال له:
"هاه؟ أبو نعال؟ مات البارحة… كان مريض، وما عنده أحد، دفنّاه بالاخير."
شعر علي أن الأرض تميد تحته. لم يبكِ. جلس في الزقاق حيث التقيا. استعاد المشهد... الصوت، النظرة، اليد المرتعشة، النعل المرفوع مثل راية.
"مات؟" قالها هامسًا، ثم تمتم:
"ليش أنقذتني إذا كنت ناوي تموت؟ ليش خليتني أعيش؟"
هنا بدأ الصراع. شعور بالذنب، بالعجز، بالحيرة، بالغضب. هل كان عليه أن يموت بدلًا منه؟ لماذا لم يُقاتل هو؟ من هو هذا الرجل؟ أكان حقًا موجودًا أم خيالًا من صنع الرجاء؟ وهل نحن مدينون لمن ينقذنا إلى الأبد، حتى بعد موته؟
الفصل الثالث: حين صار الحذاء شاهدًا
مرّت سنوات. كبر علي، ودرس، واشتغل في الإسعاف. صار يحمل المرضى في الأزقة التي كانت تموت فيها الأرواح دون شاهد.
وفي يومٍ ما، نزل يحمل طفلًا جريحًا من حيّ مضطرب. قنصٌ من سطحٍ مجاور بدأ يُطلق النار. ركض حاملًا الطفل، وعندما انبطح أرضًا، رأى شيئًا على الرصيف. كان نعلًا قديمًا… مهترئًا… يشبه ذاك النعل.
توقّف الزمن مرةً أخرى. سمع الصوت… نفس الصوت.
"يا ولدي… ضيّعتك والله."
هذه المرة لم يكن هناك أحد. فقط صدى.
رفع الطفل، أكمل الركض، أنقذه.
إنقاذُ الحياة، حتى بنعلٍ، هو إنقاذٌ للروح
ما الذي يجعل الإنسان إنسانًا؟
قد لا تكون الإجابة في الكتب، ولا في طقوس الصلاة، بل في لحظة… لحظةٍ يمدُّ فيها إنسانٌ يده للآخر، لا لأنه يعرفه، بل لأنه يشبه من فقدهم. النعل، الذي لطالما كان رمز الفقر، صار هنا رمزًا للبطولة.
وفي مكانٍ ما، حيث لا يُحكم على الناس بأسمائهم ولا طوائفهم، جلس روح الجد، ينظر من بعيد، ويبتسم.
النعل لم يُدفن… النعل ما زال يركض.
#نعمة_المهدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟