أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - الشمعة والريح














المزيد.....

الشمعة والريح


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8438 - 2025 / 8 / 18 - 02:37
المحور: الادب والفن
    


في كلّ بيتٍ، هناك شمعة تُضاء ولا تُرى...
تذوب من أجلنا ونحن نُطارد الحياة، تُنير لنا الدرب بينما نُدير لها ظهورنا، وحين نلتفت، نجدها قد أصبحت دمعة.
هي الأم... التي تحترق ولا تصرخ، تُعطي ولا تنتظر، تضيء ولا تطلب ضوءًا بالمقابل.
وهذه قصة شابٍ يدعى محمود، ترك خلفه بصرة الأم، وركض نحو بغداد الطموح... ولمّا عاد، وجد أن الشمعة قد ذابت بصمت.

يا نفس، كم تلهثين خلف الضوء، ولا ترين أنّه من شمعتك؟
كم تُشيّدين القصور في ظلال الأوهام، وتنسين البيت الطينيّ الذي فيه وُلد الحنين؟
ليس النجاح تاجًا إن خلع الأمّ عن رأسها، وليس المجد مجدًا إن وقف على رماد صدرٍ احتضنك يومًا وأنت

في حيّ شعبيّ على أطراف البصرة، حيث الهواء مشبعٌ برائحة النخيل وماء شط العرب، وُلد محمود.

فقد والده صغيرًا، فنشأ في كنف أمّه "رقيّة"، امرأة لم تعرف من الدنيا غير بابها الخشبيّ، ومصلاها، وتنورها الذي كانت تخبز عليه الخبز برائحة الطفولة.

كانت توقظه مع الفجر، وتهمس له: "اقرأ، فإنك ابن الأمل."
وفي كل مساء، تشعل شمعةً صغيرة وتجلس على الأرض تقرأ وردها من القرآن، فيما ظلّ محمود يدرس على ضوء تلك الشمعة المتواضعة.

مرت السنوات، وبلغ محمود مراتب من التفوق جعلت القلوب تفرح له، لكن قلبًا واحدًا كان ينبض وحده بكل شيء: أمّه.
بعد تخرّجه، أتاه عرض عمل في بغداد، في شركة كبرى، وراتب لم تعرفه البصرة إلا في الحكايات.

عاد إلى المنزل وهو يقبض على الخبر كما يقبض الطفل على لعبته الجديدة، واحتضن أمّه وقال:

– "أماه! بغداد تناديني... العمل، المستقبل، ما حلمنا به قد أتى."

ابتسمت، لكنها لم تبارك.
هزّت رأسها وقالت بنبرة ثقيلة:

– "إن كانت بغداد نورك يا بني، فلا تنسَ شمعتنا هذه... ما زالت تحترق لأجلك."

وفي تلك الليلة، حين نام، جلست في الزاوية، وأشعلت الشمعة كعادتها.
لكنّ نورها بدا أضعف من كل ليلة سابقة.

في بغداد، ازدادت خطوات محمود سرعة، وضاع صوته بين ضجيج السيارات ونقاشات المكاتب.
صار يحمل هاتفين، وساعة ذكيّة، وبذلة أنيقة، ويجلس في مقاهٍ تُقدَّم فيها القهوة على أنغام البيانو لا صوت الموج.

وفي كل مساء، كان يعود إلى شقّته الفسيحة... فيجدها باردة، رغم التدفئة.
يحدّق في صورتها المعلّقة، ويتذكّر صوتها وهي تناديه: "محمود... عشاؤك جاهز."
لكن الصمت في بغداد لا يُجيب.

اتصل بها ذات ليلة:

– "كيف حالك يا أماه؟"

قالت بصوت مبحوح:

– "لا بأس يا ولدي... أنام كثيرًا هذه الأيام... وأشعل الشمعة، لكنها صارت لا تضيء إلا قليلاً."

ضحك بخفّة وقال:

– "ربما يجب أن نشتري شمعة جديدة."

فسكتت، ثم تمتمت:

– "وهل القلوب تُستبدَل يا محمود؟"

ومع الوقت، بدأ الاتصال يتباعد.
مرّ أسبوع، ثم آخر، ثم شهران...
وفي صباحٍ رماديّ، وبينما كان محمود على وشك حضور اجتماع، رنّ هاتفه :

– "محمود... أنا أمّ هاشم... جارتكم في البصرة...
أمّك... نامت ولم تستيقظ...
كانت ممسكة بصورة لك...
والشمعة... انطفأت."

لم يقل شيئًا.
سقط الهاتف من يده، وسقط هو على ركبتيه، كأن بغداد كلها ضاقت عليه.

عاد إلى البصرة بنفس القطار الذي غادر فيه، لكنّ الطريق كان أطول، والندم أعمق.

وصل عند الغروب.
دخل البيت، فوجد الباب مفتوحًا، والبيت ساكنًا إلا من رائحتها.
دخل غرفتها، فوجد كل شيء كما تركه:
المصلى، المصحف، الصورة... والشمعة.
كانت في الزاوية... ساكنة، منطفئة، وبقايا شمعها تسيل كدموع لا صوت لها.

جلس عند رأسها، وقبّل يديها الباردتين، وبكى كما لم يبكِ في حياته.

ثم رأى ظرفًا صغيرًا تحت وسادتها، كتب عليه بخطّها المرتجف:

"إلى محمود... إن عاد."

فتحه، وقرأ:

"ولدي، لم أكن أريد أن أكون عبئًا على قلبك.
أعلم أن الحياة هناك واسعة، والمستقبل يطرق بابك بقوة، وأنا لم أكن يومًا سوى بابٍ صغير في آخر الزقاق.

لكنّي كنتُ أحبّك كثيرًا... أكثر مما تَسَعُ الكلمات.
كنتُ أضيء الشمعة كل ليلة، لا لأرى، بل لأشعر أنك ما زلت هنا.

حين تقرأ هذه الرسالة، ستكون الشمعة قد ذابت، لكني أرجو أن لا يذوب النور الذي تركتُه فيك.

لا تبكِ... بل ازرع نورًا لغيرك.

أمّك التي ما خانت

ترك محمود عمله في بغداد.
وعاد ليستقرّ في البصرة، لا كمهندس، بل كإنسان.

حوّل غرفتها إلى مكتبة صغيرة، يدرّس فيها أبناء الحي مجانًا.
وفي كل دفتر يعطيه لطفل، كان يكتب:
"شمعة من نور أمي... دعها لا تنطفئ."

وفي كل مساء، كان يدخل غرفتها، ويشعل شمعة واحدة، ثم يجلس صامتًا.

وسأله أحد الأطفال ذات يوم:

– "عمو محمود، لماذا تشعل هذه الشمعة كل يوم؟"

ابتسم وقال:

– "لأن هناك ضوءًا لا يُرى... لكنه يُنير الطريق."

في حياة كلّ إنسان شمعة لا تُرى...
إنها يدٌ تُربّت على ظهره حين يتعثر، قلبٌ يدعو له في غيابه، وصوتٌ يُطمئنه حين تشتدّ عليه العتمة.
لكننا لا نراها... إلا حين تنطفئ.

يا من تقرأ،
قف الآن،
تأمّل،
واسأل نفسك:

هل ما زالت شمعتك تضيء من أجلك؟
إن كانت كذلك... فارجع، قبّل يدها، قبل أن تسبقك الريح.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة حب واحدة… وحياة كاملة
- صويحبتي
- حين يغسل المطرُ الوجوه
- مرثيّة نصف عام
- رحيلٌ مؤجَّل
- حين انكسر الجدار
- الحمار الذي زأر
- نعلُ الجدِّ الذي أنقذَ الحفيد
- حُجَّةٌ... وَلَكِنْ إِلَى أَيْنَ؟
- بيت لا يقبل القسمة


المزيد.....




- سميّة الألفي في أحدث ظهور لها من موقع تصوير فيلم -سفاح التجم ...
- عبد الله ولد محمدي يوقّع بأصيلة كتابه الجديد -رحلة الحج على ...
- الممثل التونسي محمد مراد يوثق عبر إنستغرام لحظة اختطافه على ...
- تأثير الدومينو في رواية -فْراري- للسورية ريم بزال
- عاطف حتاتة وفيلم الأبواب المغلقة
- جينيفر لوبيز وجوليا روبرتس وكيانو ريفز.. أبطال أفلام منتظرة ...
- قراءة في ليالٍ حبلى بالأرقام
- -الموارنة والشيعة في لبنان: التلاقي والتصادم-
- -حادث بسيط- لجعفر بناهي في صالات السينما الفرنسية
- صناع أفلام عالميين -أوقفوا الساعات، أطفئوا النجوم-


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - الشمعة والريح