نعمة المهدي
الحوار المتمدن-العدد: 8453 - 2025 / 9 / 2 - 10:16
المحور:
الادب والفن
ليس للمعرفة جدرانٌ تحدّها، ولا قصورٌ تحتكرها. فقد يولد الحلم من كوخ طيني، ويشبّ من قصبٍ يئنّ للريح، ليُعانق فيما بعد أسقف الجامعات المذهّبة.
كانت الدكتورة منى تلقي محاضرتها في إحدى الجامعات البريطانية، القاعة غارقة في أضواءٍ بيضاء، والطلاب يحدّقون في كلماتها باهتمام. توقّفت لحظة، رفعت رأسها وقالت:
"أنا ابنة مدرسة طين."
ارتبكت الوجوه، وساد صمت قصير. لكن ذهنها لم يكن في لندن، بل في ميسان ، المحافظة العراقية الجنوبية … حيث بدأ كل شيء.
كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، يوم لم تكن المدارس تكفي أطفال الريف. عندها خرج الشيخ العجوز "حجي سلمان" من بين نخيله، وابتسامته تحمل عناء السنين، وقال كلمته التي بقيت مثل نبوءة:
"خذوا من بستاني، وابنوا هنا… فالعلم أولى بالظل من التمر."
منذ ذلك اليوم تحوّل البستان إلى ورشة حياة. رجال يشيدون جدران الطين، نساء يطبخن في قدور كبيرة كي لا يجوع أحد، وأطفال يرسمون على الجدران المبتلة أزهاراً وطيوراً بألوان شاحبة. كان السقف من القصب، يئن مع الريح، والجدران تتصدع مع كل صيف، لكن أحداً لم يبالِ. كان المكان مدرسةً، وكان في القلوب يقين بأن الطين أصلب من الرخام حين يُبنى على الحلم.
ومن بين تلك المقاعد الطينية جلست الطفلة منى، عيناها واسعتان كنافذتين على الغد. هناك كتبت أولى حروفها، وهناك عرفت أن الفقر لا يطفئ الشعلة بل يؤججها.
ومضت الأعوام. كبرت الطفلة، وغدت أستاذةً تقف اليوم بين الرخام والأضواء، لتواجه طلابها وتقول بلهجة الواثق:
"من بستان طيني خرجت، ومن نخلة ميسان ارتويت… ولو عاد بي الزمن ألف مرة، لابتدأت من الطين ذاتِه."
صمتت لحظة، ثم مسحت نظارتها، وأردفت بصوتٍ عميق ارتجّ له الصمت في القاعة:
"تذكّروا دائماً… إن أعظم القصور تُشيَّد من حفنة طين، إذا سُقيت بالحلم."
#نعمة_المهدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟