أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - حين سلمني ابي














المزيد.....

حين سلمني ابي


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 21:39
المحور: الادب والفن
    


جلس كرار في صدر المجلس، متعب العينين، منكسر القلب. كان يستقبل المعزين بوجهٍ جامد لا يُفصح عمّا يعتمل بداخله. الأيدي تتعاقب، الكلمات تتكرر:
– "عظّم الله أجرك."
– "البقاء لله."
لكنه لم يعد يميّز بينها؛ صارت مجرد أصوات تتلاشى في هواء ثقيل.

وفجأة توقّف الزمن. رآها تدخل بخطوات بطيئة. زينب. لم يكن يتوقع أن يراها هنا. ارتدت ثوبًا أسود بسيطًا، وغطّت رأسها بوشاحٍ قاتم، لكن عينيها ظلّ فيهما البريق نفسه الذي رآه في المستشفى. وقفت أولًا بين النساء، ثم اقتربت نحوه، كأنها تمشي فوق حقلٍ من الشوك. توقفت لحظة، وكأنها تبحث عن شجاعة إضافية، ثم قالت بصوتٍ خافت:
– "رحمه الله… كان رجلًا كريمًا."

لم يستطع أن يرد. رفع رأسه إليها، وشعر أنّ كلماتها لم تكن مجرد واجب، بل اعتراف صامت بأن ما جمعهما لم ينتهِ بموت والده.

وهنا، انفتح في ذاكرته باب واسع، ليعيده إلى تلك الأيام التي سبقت الفقد…

في غرفة الطوارئ، كان الليل يُطبق على كل شيء. أجهزة المراقبة تبث أنينًا ثابتًا، ورائحة المعقّمات تخنق الهواء. كرار يجلس قرب سرير والده، يراقب صدره يعلو ويهبط بصعوبة.

حين دخلت زينب أول مرة، شعر بارتباك غريب. لم تكن أجمل امرأة رآها في حياته، لكنه أحس في حضورها بشيء يبعث السكينة. مجرد نظرة منها، وهو في قلقه، بدت كيدٍ تُمسك قلبه المتعب. حاول أن يقنع نفسه: إنها مجرد ممرضة، تقوم بعملها. لكن في داخله، كان يعلم أن شيئًا ما قد بدأ يتحرك.

أما زينب، فحين رأت ذلك الشاب القابع بجوار والده، أحست بنداءٍ خفي. لم يكن أول ابنٍ يرافق أباه في المستشفى، لكنها شعرت أن عينيه مختلفتان: فيهما قلق يائس، وصدق لا يُشبه الآخرين. همست لنفسها: يا رب، اجعلني عونًا له ولو بكلمة. لكنها ظلت تخفي هذا الشعور تحت ستار واجبها المهني.

مرت الأيام. كل مساء، كانت ترى كرار في ذات المكان، عيونه محمرة من السهر، كفيه مشدودتين. كانت تحادثه بعبارات مقتضبة:
– "لا تقلق، الأدوية تعمل."
– "انتبه أن لا يتحرك كثيرًا."
لكنه كان يسمع في نبرة صوتها دفئًا لا يقوله الكلام.

وفي إحدى الليالي، غلبه النعاس. مرّت به زينب فرأته نائمًا، رأسه مائل، يده متشابكة مع يد والده المسن. توقفت. شعرت بشيء يخنقها في صدرها: كم هو وفيّ، وكم هو طفل ضائع في آن واحد. أرادت أن تضع الغطاء فوقه، لكنها تراجعت. لا يجوز… أنا ممرضة، وهذا حدّي. ثم مضت بخطواتٍ مثقلة.

كانت زينب، في وحدتها بعد المناوبة، تجلس في غرفتها الصغيرة وتخلع معطفها الأبيض. كل ليلة تعود منهكة، لكن صورة ذلك الشاب تظل تلاحقها. تحدث نفسها:
"لماذا أفكر به؟ أنا هنا لأعمل فقط… الممرضة لا ينبغي أن تتعلق بذوي المرضى… لكن عينيه… لم أرَ مثل هذا الصدق من قبل. هل هذا حرام؟ أم أنه مجرد إنسانية زائدة؟"
ثم تسكت، وتغطي وجهها بكفيها، كأنها تريد أن تخفي عن نفسها ما تعجز عن كتمانه.

في اليوم السابع، توقّف قلب الأب. ارتفع صوت الجهاز، هرع الأطباء والممرضون. زينب في المقدمة، تضغط على صدر الشيخ، تصرخ بزملائها:
– "جهاز الإنعاش! أسرعوا!"
العرق يتصبب من جبينها، وكرار واقف كالمسمّر. لم يعد يرى إلا وجهها وهي تقاتل الزمن، ووجه والده يذوي بين يديها.

توالت الدقائق بطيئة، ثم جاء الصوت القاطع:
– "توفى… رحمه الله."

سقط كرار على الأرض، وأحس أن كل شيء انتهى. رفع بصره فرأى زينب، عيناها تلمعان بالدمع لكنها تخفيه. لم تقل له شيئًا، لكنه قرأ في نظرتها مشاركة صامتة، كأنها تبكي في داخلهما معًا.

في تلك اللحظة، فهم كلاهما أن بينهما شيئًا يتجاوز الصدفة، لكنه لم يُولد بعد.

والآن، وهي واقفة أمامه في المجلس، فهم كرار سبب حضورها. لم يكن مجرد واجب أو مجاملة، بل امتداد لذلك الخيط الخفي الذي نشأ بينهما في المستشفى.

هي أيضًا، حين وقفت أمامه، أحسّت أنّها تكشف سرًا أخفته طوال تلك الأيام: أنّها كانت ترى فيه رجلًا مختلفًا، وأنها لم تستطع أن تظل حبيسة الصمت أكثر.

رفع كرار رأسه إليها، وفي عينيه سؤال لم ينطق به. هي ردّت بنظرة عميقة، كأنها تقول: كنت معك يوم وداع أبيك… وسأكون معك إذا شئت لبداية جديدة.

خرج بعدها إلى فناء الدار. السماء بدأت تستقبل خيوط الفجر، والهواء البارد يلسع وجهه. رفع عينيه إلى السماء وقال في سره:
"يا أبي… يدك التي حملتني صغيرًا تركتني اليوم بين يدي قدر آخر. كأنك سلّمتني إلى الحياة من جديد، على هيئة امرأة اسمها زينب."

وبين الموت والحياة، اكتشف أنّ الحب لا يولد في النور وحده، بل ينبت أحيانًا من رحم العتمة، كزهرةٍ وحيدة في أرضٍ محروقة.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكرسي الفارغ
- حلم التخرج
- النافذة التي لا تُفتح
- بين النخيل
- حين تسقط الاقنعة
- صحوة القلب
- زهرة ذبلت قبل الربيع٤
- الصندوق الأخير
- الحب عبر الجدار
- رسالة بين دفّتي كتاب
- الشمعة والريح
- قصة حب واحدة… وحياة كاملة
- صويحبتي
- حين يغسل المطرُ الوجوه
- مرثيّة نصف عام
- رحيلٌ مؤجَّل
- حين انكسر الجدار
- الحمار الذي زأر
- نعلُ الجدِّ الذي أنقذَ الحفيد
- حُجَّةٌ... وَلَكِنْ إِلَى أَيْنَ؟


المزيد.....




- الصوت يُعيد القصيدة
- الكتاتيب في مصر: ازدهرت في عصر العثمانيين وطوّرها علي باشا م ...
- رواية -مغنية الحيرة-.. يا زمان الوصل بمملكة الحيرة
- -اللي باقي منك-... فيلم عن مراهق فلسطيني يمثل الأردن في أوسك ...
- المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار يدعو حكومة بلاده لقطع العلاق ...
- السياسة حاضرة بقوة في مهرجان البندقية السينمائي 2025
- بعد محطات مهمة.. الإعلان عن موعد عرض فيلم -ضي- في مصر
- الحكومة: شرط اللغة في دور رعاية المسنين ”أمر لا بدّ منه”
- أدباء وفنانو موريتانيا يكرسون أعمالهم للتضامن مع غزة
- سيد جودة.. رائد تجسير الثقافات بين الأدب العربي والصيني عبر ...


المزيد.....

- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - حين سلمني ابي