أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - زهرة ذبلت قبل الربيع٤














المزيد.....

زهرة ذبلت قبل الربيع٤


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8443 - 2025 / 8 / 23 - 09:20
المحور: الادب والفن
    


إنّ في هذه الحياة أفراحًا تمرّ على القلوب مرَّ النسيم، لا تكاد تلمسها حتى تتبدّد، ولا تكاد تنبض حتى تحتضر. وهل كُتب على القلوب أن تعشق لتذوق مرارة الفقد؟ أم أن نصيب الفضيلة في الدنيا أن تُبتلى بحرمانها؟ ما أكثر ما يهيّئ القدر للإنسان وردةً يانعة، فإذا بيد العرف والتقاليد تجتثّها من جذورها قبل أن تكتمل أكمامها. أيّ معنى للابتسامة النقية إذا كان مصيرها أن تُغتال في فمها؟ وأيّ قيمة للدمعة إن لم تكن مهر الحكمة التي لا تُشترى؟ هكذا تبدأ الحكاية: لا بصيحة فرح، ولكن بأنين قلب يختبئ تحت عباءة الصمت، وبشمعة أملٍ ترتجف أمام ريحٍ لا تعرف الرحمة.

دخل "سامي" الدائرة الحكومية كما يدخل المرء مدينةً من الورق: أروقة مزدحمة بالملفّات، مكاتب غاصّة بالأختام والتواريخ، نوافذ متربة، وهواء مشبع برائحة الحبر والرطوبة. أصوات الموظفين والمراجعين كانت كجدولٍ عكر لا ينقطع، يحمل الشكوى والانتظار.

وبين تلك الوجوه المرهقة، كانت تشرق شمس صغيرة اسمها "هند". تجلس خلف مكتبها بهدوء يشبه خشوع المصلين، تُفصّل المعاملات المعقدة كما لو كانت تسرد حكايةً لطفل. صوتها وديع كخرير الجدول، وابتسامتها نصف قمر يضيء وجوه الناس الغاضبة.

وقف سامي، الغريب الجديد بينهم، صامتًا يراقب. لم يجد سبيلًا لبثّ ما في قلبه إلا في عادةٍ لطيفة: كوب شاي يضعه كل صباح على مكتبها، دون كلمة أو توقيع. يكتفي بأن يراها ترفع الكوب بابتسامةٍ خجولة، ويترك للبخار المتصاعد بينهما أن يروي ما عجز عنه لسانه. وهكذا انقضى عام كامل، والقلوب تتهامس بما لم يجرؤ اللسان أن يعلنه.

لكن الصمت لم يكن سهلًا، فقد كان قلبه يتنازعه صراعٌ مرير: أيفضح سره ويبوح؟ أم يلوذ بالكتمان خشية أن يطفئ الاعتراف ما أناره الحياء؟ لقد كان يعرف أنّ للكلام ثمنًا، وأنّ للعيون العذول سلطانًا، فآثر أن يُضحّي بلذّة البوح ليحفظ نقاء الصلة.

غير أنّ العناية الإلهية تسوق الأقدار بما لا يتوقعه البشر. ففي صباحٍ بدا عاديًا، وجد ورقة صغيرة مطويّة على مكتبه. فتحها بيدٍ مرتعشة فقرأ:
"الشاي أحلى حين أعرف أنك من صنعه… متى نكمل حديثنا خارج الدائرة؟"

توقّف الزمن لحظةً، وسكتت الأصوات من حوله. لقد انكشف الغطاء، ولم تعد مشاعره وحيدة كما ظن.

التقيا مساءً في مقهى قديم بشارع الرشيد. كان المقهى هادئًا تزينه مصابيح صفراء كنجومٍ متعبة، والليل يرش نافذته برذاذ المطر كدموع السماء. جلسا متقابلين، يتأمل كلٌّ منهما الآخر بصمتٍ أطول من الكلام.

قالت هند بصوتٍ مرتجف:
– "ظننتك صامتًا لأنك متعالٍ، ثم أدركت أنك كنت أعمق مما تصورت."
فأجابها سامي، ودمعته تخنق صوته:
– "خشيت أن أفسد كل شيء بالكلام… لقد كان الشاي لغتي الوحيدة."

ومنذ تلك اللحظة، ولدت بينهما قصة حبّ عفيفة، عاشت على الأمل، وتحلم أن تُتوَّج بميثاقٍ شرعي. غير أنّ الطريق لم يكن معبّدًا؛ فقد كانت هند ابنة أسرةٍ محافظة، ترى في الغريب تهديدًا لعاداتها، بينما سامي لم يملك من الدنيا سوى راتب متواضع وقلبٍ مخلص.

وذات مساء، اجتمعا في المقهى نفسه، لكن عيني هند كانتا غارقتين بالدموع. همست له بصوتٍ منكسر:
– "سامي… لقد قرر أبي أن يزوجني من ابن عمي. قاومت ما استطعت، لكنني ابنة بيتٍ لا يُسمح لها بالاعتراض."

ارتجف قلبه كمن سقطت عليه السماء. أراد أن يقاوم، أن يصرخ، أن يخطفها من قيودها، لكن الكلمات جمدت على شفتيه. لقد أدرك أن معركته خاسرة أمام جدار العادات.

نهضت هند، وتركت على الطاولة كوب الشاي لم تمسّه، ومضت بخطوات مثقلة نحو مصيرٍ لم تختره. بقي سامي وحيدًا، يحدّق في الكوب الفارغ وفي الورقة الصغيرة التي لا تزال مطويّة في جيبه.

وهكذا، انتهت القصة كما بدأت: بكوب شاي… غير أنّ الأول كان وعدًا صامتًا، والآخر كان إعلانًا للفقد. خرج سامي إلى ليل بغداد البارد، يسير وفي صدره جرح لا يندمل، وهو يردّد كمن يناجي قدره:

"كان حبّنا زهرة وُلدت في صمت، لكنها قُطفت قبل أن تتفتح."



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصندوق الأخير
- الحب عبر الجدار
- رسالة بين دفّتي كتاب
- الشمعة والريح
- قصة حب واحدة… وحياة كاملة
- صويحبتي
- حين يغسل المطرُ الوجوه
- مرثيّة نصف عام
- رحيلٌ مؤجَّل
- حين انكسر الجدار
- الحمار الذي زأر
- نعلُ الجدِّ الذي أنقذَ الحفيد
- حُجَّةٌ... وَلَكِنْ إِلَى أَيْنَ؟
- بيت لا يقبل القسمة


المزيد.....




- اختفاء لوحة أثرية عمرها 4 آلاف عام من مقبرة في سقارة بالقاهر ...
- جاكلين سلام في كتابها الجديد -دليل الهجرة...خطوات إمرأة بين ...
- سوريا بين الاستثناء الديمقراطي والتمثيل المفقود
- عامان على حرب الإبادة الثقافية في قطاع غزة: تدمير الذاكرة وا ...
- من آثار مصر إلى الثقافة العالمية .. العناني أول مدير عربي لل ...
- اللاوا.. من تراث للشلك إلى رمز وطني في جنوب السودان
- الوزير المغربي السابق سعد العلمي يوقع -الحلم في بطن الحوت- ف ...
- انتخاب وزير الثقافة والآثار السابق المصري خالد العناني مديرا ...
- بعد الفيلم المُرتقب.. الإعلان عن موسمين جديدين من مسلسل -Pea ...
- عاجل.. المصري خالد العناني مديراً لمنظمة اليونسكو


المزيد.....

- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - زهرة ذبلت قبل الربيع٤