أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - عقاب الماء البارد














المزيد.....

عقاب الماء البارد


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8452 - 2025 / 9 / 1 - 16:26
المحور: الادب والفن
    


القسوة ليست طبعًا يولد مع الإنسان، بل قرار يتكرر حتى يغدو عادة، ثم يتحول إلى قدر. من يقتل الرحمة في قلبه يظن أنه ينجو، لكنه في النهاية يُحاصر بما صنعت يداه، فيذوق مرارة ما أنكره على الآخرين.

في تقاطع السيارات المزدحم، وقفت سلمى تحمل علبة كارتون ماء بارد، تصرخ بصوت متعب:
"مي بارد… البطل بربع!"

صوتها المرتجف يخترق ضجيج السيارات، لكن خلفه ثلاثة وجوه صغيرة تنتظر رغيف الخبز: علي، محمد، وسلوى. كانوا يظنون أن أمهم تكافح لأجلهم، ولا يعرفون أن هذه اليد التي تبيع الماء هي ذاتها التي دفنت الرحمة يومًا في بيت ابيهم .

كانت سلمى ابنة بيت ميسور. تزوجت سالم الموظف الوسيم، معتقدة أنها ستواصل حياتها في رفاه. لكنها وجدت نفسها في بيت مثقل بالمرض؛ أم مقعدة، وأب عليل المفاصل. ومنذ اليوم الأول أعلنت رفضها قائلة:
"سالم، أنا ما تزوجتك حتى أخدم مريضين… بيتكم موبوء، وأنا ما أتحمل."
رد سالم برجاء :
"ذوله أمي وأبويه، يا سلمى… الله وصّى بيهم. ما عندي غيرك سند."
فتنفجر بضحكة ساخرة:
"سند؟ أنا مو خدامة إلهم، وإذا تريدني أظل، ابعدني عنهم."

في أعماقها، لم تكن سلمى ترى نفسها قاسية، بل مظلومة. كانت تهمس لنفسها كل ليلة:
"أنا مو خدامة… أنا زوجة، ومن حقي أعيش مثل باقي النساء. ليش أنحط في بيت كله وجع؟"
لكنها لم تدرك أن كلماتها لم تكن سوى ستار تخفي خلفه برودة قلبها، إذ لم تحاول ولو مرة أن تضع الرحمة موضع التجربة.

أمّه المريضة كانت تسمع تلك الكلمات وتبكي بصمت. وفي إحدى الليالي، حين سعلت بشدة، سمعت سلمى تقول بحدة: "ليلة ورى ليلة… خلي تخلص ونرتاح!"
لم تكن تعلم أن الأم ستفارق الحياة بعد أيام، تاركة سالم غارقًا في الحزن.

الأب المسن لم يكن أوفر حظًا؛ كثيرًا ما نهرته سلمى بقولها: "قوم من مكاني! ريحتك تعفن البيت." كان الشيخ يحدّق في وجهها مطولاً، ثم يقول لسالم بصوت خافت:
"ابني… مرات أتمنى الموت يجي بسرعة حتى أرتاح من كلامها."
فيرد سالم بعينين دامعتين: "اصبر يا يابه… الله كريم."

لكن القسوة بلغت ذروتها حين امتنعت سلمى عن إعطائه دواءه في غياب سالم، رغم توسلات الشيخ:
"بنتي… انطيني الدوة، اللي بالچيس. الله يرضى عليك." فأجابته ببرود: "ماكو دوة إلا بس لما يجي ولدك. ما إلي علاقة بيك."
رحل الأب بعد أيام، ودفن معه آخر ما تبقى من صبر سالم.

ليلة دفن الجد، عاد علي الصغير يسأل ببراءة:
"ماما… ليش جدو راح؟ هو زعل منّا؟"
سكتت سلمى، بينما سالم أجهش بالبكاء، يحتضن ابنه ويقول:
"لا بابا… جدو تعب، والله أخذه يريّحه."
نظر الأطفال بعيون غارقة في الدموع، ولم يفهموا أن قسوة أمهم كانت أسرع في قتله من المرض.

انهار سالم تماماً. ترك العمل بعد أن أُحيل إلى التقاعد المبكر بداعي المرض. أخذ يذوب ببطء، يصرف آخر ما يملك على الأطباء. جلس ذات ليلة في زاوية الغرفة، يحدق في الجدار كأنه يحادثه، ثم التفت إلى أولاده وهم نائمون وقال: "سامحوني… آني ما كدرت أوفّرلكم شي. حتى أبوكم طلع ضعيف."
اقتربت سلمى ببرود لتضع الغطاء على الأولاد، فقال لها بصوت منكسر:
"سلمى… إذا متت، عامليهم بالرحمة. لا تخلين قسوتج توصل إلهم." ثم أطرق رأسه، كمن سلّم نفسه للموت قبل أن يأتي.

وبعد اقل من سنة تقريبا، أسلم سالم روحه، تاركًا أبناءه في مواجهة الدنيا، وزوجة أضاعتها قسوتها.
عائلتها لم تعنها، بل كانوا يقولون:
"هذا عقاب الله. من لا يرحم، لا يُرحم."

ليلة صيفية خانقة، جلست سلمى تحدق بأطفالها النائمين. علي يحتضن كتابه المدرسي، محمد يبتسم في حلمه، وسلوى تتشبث بذراع أمها وهي تهمس في نومها:
"ماما… لا تتركيني."
انهارت دموع سلمى، وهي تردد في قلبها:
"لو يعرفون من كنت… لو يعرفون ما فعلته بأبيهم وجدّهم."

لكن الأطفال، ببراءتهم، لم يروا سوى أمًّا تكافح لأجلهم، ينامون مطمئنين بجانبها، بينما قلبها يحترق بندم لا يطفئه ماء العالم كله.
ومع بزوغ الفجر، حملت كارتون الماء، وخرجت إلى الشارع. صوتها المبحوح عاد يذوب وسط الضجيج:
"مي بارد… البطل بربع!"

كأنها تكفّر، دون أن تدري، عن سنوات جفاف قلبها.
ومن لا يسقِ قلبه بالرحمة، سيُسقى مرارة الندم، حتى آخر قطرة.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ومضات العمر
- دم في نفس الشارع
- السوق _دكة العطار
- حين سلمني ابي
- الكرسي الفارغ
- حلم التخرج
- النافذة التي لا تُفتح
- بين النخيل
- حين تسقط الاقنعة
- صحوة القلب
- زهرة ذبلت قبل الربيع٤
- الصندوق الأخير
- الحب عبر الجدار
- رسالة بين دفّتي كتاب
- الشمعة والريح
- قصة حب واحدة… وحياة كاملة
- صويحبتي
- حين يغسل المطرُ الوجوه
- مرثيّة نصف عام
- رحيلٌ مؤجَّل


المزيد.....




- قطر تعزز حماية الملكية الفكرية لجذب الاستثمارات النوعية
- فيلم -ساحر الكرملين-.. الممثل البريطاني جود تدرّب على رياضة ...
- إبراهيم زولي يقدّم -ما وراء الأغلفة-: ثلاثون عملاً خالداً يع ...
- النسخة الروسية من رواية -الشوك والقرنفل- تصف السنوار بـ-جنرا ...
- حين استمعت إلى همهمات الصخور
- تكريم انتشال التميمي بمنحه جائزة - لاهاي- للسينما
- سعد الدين شاهين شاعرا للأطفال
- -جوايا اكتشاف-.. إطلاق أغنية فيلم -ضي- بصوت -الكينج- محمد من ...
- رشيد بنزين والوجه الإنساني للضحايا: القراءة فعل مقاومة والمُ ...
- فيلم -ساحر الكرملين-...الممثل البريطاني جود لو لم يخشَ -عواق ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - عقاب الماء البارد