أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - السوق _دكة العطار














المزيد.....

السوق _دكة العطار


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8448 - 2025 / 8 / 28 - 17:16
المحور: الادب والفن
    


ليلةٌ مضيئة في الشورجة، مصابيح الزيت ترتجف فوق الدكة، والبهارات تفوح في الهواء كأن السوق كلّه يحتفل. الزغاريد تتعالى من بيت خال أمينة، والناس يتجمهرون في الأزقة، يتهامسون:
– "العطار تزوّجها أخيرًا… لكن انظروا إلى الندبة على جبينه!"

جلس سالم إلى جانب عروسه، وفي عينيه بريق غريب. ابتسم، نعم، لكن وراء ابتسامته ظلّ شاحب، كظلّ لا يزول. لقد نال ما حلم به أعوامًا، لكنه يعرف – في أعمق قلبه – أن السعادة ليست صافية، وأن السوق غادر، يرفعك اليوم ويطرحك غدًا.

قبل أشهر قليلة، لم يكن سالم يرى في نفسه أكثر من عطار بسيط. دكّته الخشبية الصغيرة، ورائحة الهيل التي تتصاعد من أكياسه، كانت عالمه كلّه. يفتحها مع أول خيوط الشمس ويغلقها حين ينام السوق.

غير بعيد، كانت أمينة تقف في دكّة الأقمشة بجوار خالها. كانت ابتسامتها القصيرة حين تلقي السلام على سالم تكفيه ليقضي يومًا بأكمله في طمأنينة. لم يتحدث معها يومًا بأكثر من كلمات معدودة، لكنه كان يعرف أنه يحبها كما يُحب الإنسان نسمة هواء في ظهيرة قائظة.

حتى جاء الخبر الذي هزّ قلبه: أمينة مخطوبة لابن التاجر الكبير.
كلمة واحدة جعلت الألوان تنطفئ من السوق. لم يعد الهيل يفوح، ولا الكمّون يبهج أنفه. صار سالم يرى نفسه صغيرًا أمام ثروة الرجل الآخر. لم يملك سوى دكّة ورثها عن أبيه، بينما خصمه يملك المتاجر والدكاكين والسطوة.

في الليالي التالية، أخذ القلق يعصره. وجهه اصفرّ، عيناه لا تعرفان النوم. صار يفتح دكّته بصعوبة، كأن القفل يثقل ألف مرة أكثر من المعتاد. حتى الزبائن لاحظوا تردده، وبدأ بعضهم يسخر في الخفاء:
– "ما بال العطار؟ كأنّ الريح نزعت قلبه."

وذات مساء، حين كان يغلق دكّته، سمع صراخًا في الزقاق الخلفي. ركض دون تفكير، وهناك رأى ما لن ينساه: ابن التاجر يحاصر أمينة، يمد يده عليها بعنف.
صرخ سالم، وانقضّ عليه كما ينقضّ الجائع على طعامه. تحوّل الزقاق الضيق إلى ساحة معركة: صرخات، لكمات، دماء على الحجارة. ضربة قاسية فتحت جبينه وأسقطته أرضًا. اجتمع الناس، بعضهم شامت، بعضهم صامت، بينما أمينة تبكي وتصرخ.

عاد سالم تلك الليلة بجرح غائر على وجهه وذراع معلّقة. لكن الأشد وقعًا كان الكلام. السوق في اليوم التالي امتلأ بالوشوشات:
– "العطار تورّط… لقد جرّ على نفسه العار."
حتى والده لم يرحمه:
– "يا ولدي، ورّطت نفسك، والسوق ما ينسى."

وثاني يوم ، جلس سالم على دكّته، جبينه مغطى بضماد قديم، عينيه غارقتين في الأرض. مرّ الناس أمامه، بعضهم ألقى السلام بلا اكتراث، وبعضهم تهامس وضحك.

فجأة توقفت خطوات خفيفة أمامه. رفع رأسه، فوجد أمينة.
كانت تحمل في يدها قطعة قماش مطوية بعناية، ووجهها شاحب لكنه ثابت.
مدّت القماش نحوه بصوت منخفض:
– "أمّي خيطت لك هذا… لتغطي به جرحك. قالت: الجرح لا يعيب الرجل."

ارتبك سالم، لم يعرف ماذا يقول. مدّ يده المرتعشة وأخذ القماش، بينما الكلمات تعلّقت في حلقه.
أضافت أمينة، وهي تبتسم ابتسامة صغيرة كسرت صمته:
– "أنا أعرف يا سالم… السوق يغيّر كلامه كل يوم. لكن أنا… لم أغيّر ما في قلبي."

ثم ابتعدت بخطوات مسرعة قبل أن يجيب، تاركة وراءها أثرًا كالعطر.
جلس سالم بعدها طويلًا، ممسكًا بالقماش، كأنه يمسك بحياته كلها في تلك اللحظة.

لكن السوق لا يعرف الثبات. بعد أسابيع قليلة، انكشفت فضيحة: ابن التاجر نفسه قُبض عليه وهو يغشّ في الأقمشة، يخلط الرديء بالثمين.
انقلبت الألسنة فجأة. نفس الذين شمتوا بسالم صاروا يقولون:
– "الحق كان مع العطار… وقف وقفة رجال."

وفي صباح غائم، ظهر خال أمينة عند دكّة سالم. نظر طويلًا إلى الندبة التي لم تلتئم، ثم قال بصوتٍ عميق:
– "المال كثير… لكن الرجولة قليلة. وأنا ما أعطي بنت أختي إلا لرجلٍ وقف وصانها."

لم يصدق سالم أذنيه. شعر أن الجرح الذي حسبه عارًا تحوّل إلى وسام.

والآن، في ليلة الزفاف، كان السوق يرقص ويغنّي. البهارات تفوح، الزغاريد تعلو، وأمينة بجانبه سعيدة كطفلة عادت إلى حضنها.

لكنه، وسط الضحك والتهاني، ظلّ سالم ساكنًا، يتأمل الناس من حوله. يعرف أنهم أنفسهم الذين صمتوا حين وقع مضرجًا بدمه، وأنهم قد ينقلبون عليه في الغد إذا هبّت ريح جديدة.

ابتسم، لكن ابتسامته لم تخلُ من مرارة. مدّ يده يلامس الندبة على جبينه، وأدرك أنها لن تزول أبدًا، لا من وجهه ولا من قلبه. كانت شاهدة على تضحيته، نعم، لكنها أيضًا شاهدة على قسوة مجتمع لا يرحم.

ظلّت رائحة الهيل تعبق في السوق، لكن في أنفه هو، امتزجت برائحة الدم في الزقاق الضيّق. وتساءل في نفسه: هل السعادة حقًا بين يديه الآن؟ أم أنها مجرد لحظة عابرة، مثل بهارٍ يفوح سريعًا ثم يتبدّد في هواءٍ لا يرحم؟



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين سلمني ابي
- الكرسي الفارغ
- حلم التخرج
- النافذة التي لا تُفتح
- بين النخيل
- حين تسقط الاقنعة
- صحوة القلب
- زهرة ذبلت قبل الربيع٤
- الصندوق الأخير
- الحب عبر الجدار
- رسالة بين دفّتي كتاب
- الشمعة والريح
- قصة حب واحدة… وحياة كاملة
- صويحبتي
- حين يغسل المطرُ الوجوه
- مرثيّة نصف عام
- رحيلٌ مؤجَّل
- حين انكسر الجدار
- الحمار الذي زأر
- نعلُ الجدِّ الذي أنقذَ الحفيد


المزيد.....




- «أوديسيوس المشرقي» .. كتاب سردي جديد لبولص آدم
- -أكثر الرجال شرا على وجه الأرض-.. منتج سينمائي بريطاني يشن ه ...
- حسن الشافعي.. -الزامل اليمني- يدفع الموسيقي المصري للاعتذار ...
- رواد عالم الموضة في الشرق الأوسط يتوجهون إلى موسكو لحضور قمة ...
- سحر الطريق.. 4 أفلام عائلية تشجعك على المغامرة والاستكشاف
- -الكمبري-.. الآلة الرئيسية في موسيقى -كناوة-، كيف يتم تصنيعه ...
- شآبيب المعرفة الأزلية
- جرحٌ على جبين الرَّحالة ليوناردو.. رواية ألم الغربة والجرح ا ...
- المغرب.. معجبة تثير الجدل بتصرفها في حفل الفنان سعد لمجرد
- لحظات مؤثرة بين كوبولا وهيرتسوغ في مهرجان فينيسيا السينمائي ...


المزيد.....

- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - السوق _دكة العطار